Skip to main content

التعلم الذاتي… حجر الأساس في رحلة تعلم وممارسة العمارة

د. جميل عابد
By: د. جميل عابد
Published on: منذ 3 أسبوع

في مهنةٍ تتسم بالعمق، التداخل بين التخصصات ومتغيرات متجددة، من الضروري أن يمتلك المعماري مهارة محورية وأساسية هي التعلم الذاتي، باعتبارها أداة مستمرة للنمو الفكري، والاحتراف العملي، والتميّز الوظيفي، والبصري. إنها المهارة التي تجعل من المعماري شخصية فاعلة، مستقلة، وقادرة على التكيف وعكس التقدم والتطور في المجال. التعلم الذاتي ليس مجرد وسيلة لسد ثغراتٍ معرفية، بل هو فلسفة مهنية تقوم على إدارة الفرد لرحلته المعرفية والمهارية، من خلال بناء قراراته التعليمية، ومتابعة فضوله، واستثمار الفرص المحيطة به لاكتساب المعرفة والمهارة في الوقت والمكان المناسبين. هذه الفلسفة تستند إلى أدواتٍ مساعدة، أهمها: الاطلاع العميق، التغذية البصرية الواعية، والتحليل النقدي، والتي تشكل معًا مكونات جوهرية في ممارسة المعماري لعملية التعلّم الذاتي المستمر. والذي يُمكّن المعماري من بناء منهجٍ فكري ومهني متجدد في كل مرحلة من حياته، سواءً أثناء الدراسة الجامعية أو في الممارسة المهنية بعد التخرج. كذلك ما يُميز التعلّم الذاتي عن غيره، أنه لا يرتبط بمرحلةٍ تعليمية معينة. فهو يبدأ في مرحلة الدراسة الجامعية، حيث يحتاج الطالب إلى دعم ما يتلقاه في المقرر الأكاديمي بتوسع شخصي ومعرفي، ويستمر بعد التخرج، حين تتغير طبيعة التحديات وتتشكل الحاجة إلى مهاراتٍ جديدة وتقنياتٍ متجددة. ونتطرق الى بعض أمثلة التعلم الذاتي ببعضٍ من التفصيل:

أولًا: الشرارة الأولى للمعرفة (الاطلاع)، يمثل الاطلاع نقطة الانطلاق لكل معماري يسعى لتطوير ذاته خارج حدود المنهج الأكاديمي. فالاطلاع ومتابعة المدارس المعمارية المختلفة، والانغماس في قراءة النظريات والكتب والمقالات، يزوّد المعماري برؤيةٍ شمولية عن مسارات العمارة المتعددة وتطوراتها. كذلك لا يكون الاطلاع مجرد جمعٍ للمعلومات، بل هو تمرين على طرح الأسئلة: كيف نشأت هذه الفكرة؟ ما علاقتها بالسياق الاجتماعي أو المناخي؟ ما الذي يجعل هذا المشروع مميزًا؟ هذا النوع من التساؤل ينقل الاطلاع من حالة استهلاكٍ سطحي إلى أداةٍ للبحث والتحليل والتفكير النقدي، مما يرسّخ استقلالية المعماري في بناء معرفته الخاصة.

ثانيًا: بناء المخزون الإبداعي (التغذية البصرية)، التغذية البصرية ليست مجرد مشاهدة للمباني أو الصور، بل هي أحد أكثر أدوات التعلم الذاتي حساسية وعمقًا. وهي تعني أن يُدرب المعماري نفسه على الملاحظة الدقيقة، وتكوين مكتبة بصرية داخلية يستطيع الرجوع إليها عند التصميم. المعماري الذي يتغذى بصريًا بشكلٍ منتظم وواعٍ، يكتسب قدرةً على التمييز بين النِّسَب، والخامات، والعلاقات بين الكتل والفراغات، وعلى رؤية التفاصيل الجمالية حتى في المشاهد اليومية البسيطة. هذه القدرة تُمكنه من استلهام حلولٍ تصميمية متجذرة في الواقع، لكنها مطعّمة بحسٍ إبداعي نابع من مشاهداتٍ وتحليلاتٍ سابقة., حيث تُعد التغذية البصرية بمثابة تمرين يومي يدعم التفكير النقدي، تفتح الباب أمام استكشاف أنماط تصميمٍ جديدة، وتساعد على بناء لغةٍ بصرية شخصية تعبّر عن هوية المعماري وتُغني مشاريعه.

ثالثًا: تحويل المعلومة إلى فهمٍ عميق (التحليل)، التحليل هو الوسيط الذي يحوّل الاطلاع والتغذية البصرية إلى معرفةٍ حقيقية. فالتعلّم الذاتي لا يتحقق من خلال التجميع السلبي للمعلومات، بل من خلال التفاعل النشط معها وتحليلها. حين يقوم المعماري بتحليل مشروعٍ ما، فهو لا يكتفي بالنظر إليه كنتاجٍ جمالي، بل ينظر بتعمقٍ به: كيف تم حل الترابط الوظيفي؟ ما هي علاقة المبنى بسياقه؟ ما أثره على المجتمع؟ هذا النمط من التفكير يعزز قدرة المعماري على فهم العناصر الثقافية، الاجتماعية، البيئية، والنفسية التي يتعامل معها في كل مشروع، مما يجعله أقدر على تقديم عمارة إنسانية، واقعية، ومتجذرة. وبما أن التحليل مهارة يمكن تطويرها، فإن التعلّم الذاتي يمكّن المعماري من ممارستها بشكلٍ متكرر، سواءً من خلال تحليل مبانٍ، أو نقد مشاريعه الشخصية، أو مراجعة أعمال الآخرين بعيون ناقدة.

التعلّم الذاتي هو جوهر التميّز المعماري في زمن السرعة والتغيير. وكلما امتلك المعماري أدوات هذا التعلّم – من اطلاعٍ مستمر، وتغذية بصرية دقيقة، وتحليل نقدي عميق – أصبح أكثر قدرة على تجاوز حدود التقليد، وصناعة لغة تصميمية تعبر عن رؤيته الخاصة. إنها المهارة التي تُبقي المعماري دائمًا في حالة نمو، وتجعله حاضرًا في الزمن، متفاعلًا مع قضاياه، ومؤثرًا في محيطه.

د. جميل عابد

أستاذ مشارك – قسم العمارة وعلوم البناء

كلية العمارة والتخطيط

jbinabid@ksu.edu.sa