لستَ قارئاً إن لم تحاور كتابك

فكر خارج الصندوق/

القراءة الحقيقية تولِّد إشكاليات مَعرفيَّة، وحين يُحاوِر القارئ المقروء ويجادله، فإنه يجد جمًّا من الأسئلة المعرفية، بعضها يُشكل عليه ويحيره، وبُروز أسئلة محيِّرة ليس ذلك خللًا فكريًّا أو نقصًا معرفيًّا لدى القارئ، بل دليلاً على جدية القراءة ووعي القارئ، ولكن الخلل أن تقرأ كتابًا ثم لا تظهر لديك أي تساؤلات.

حين تتوارد الأسئلة على الذهن، فإنَّ الفكر يتحرك، والعقل يَنشَط، وتكون قوة وحركة الذهن بمقدار قوة الإشكالات والتساؤلات، وهي لحظة قوية ترعب القارئ الهزيل، فيترك القراءة؛ مخافة أن تظهر له أسئلة يعجز عن مواجهتها، فيفضِّل أن يبقى ذهنه ساكنًا؛ كي لا يصاب بقلق معرفيٍّ، فيهجر الكتاب ويترك القراءة.

هذا الهروب والانزِواء المعرفي هو داءٌ بذاته؛ فهو تحصُّن بالجهل، والجهل لا يحمي المرء، بل يُرْديه في متاهات أشدَّ مما يحذر، فالسلامة في الإقدام والولوج في بطون الكتب، ولكنْ عليك أن تختار أنسَبَها لعقلك وفِكرك، فما الكلٌّ لديه القدرة على أن يقتحم ما شاء من الكُتُب، ويخرج منها سليمًا معافى.

والمعرفة ليست فقط ما يتلقَّاه المرء من علوم؛ بل هي أيضًا ما ينتجه الذهن من أفكار نابعة من تساؤُلاته وتأمُّلاته، والإنسان حين يقرأ لا يبحث عن الحيرة والإرباك، بل يقرأ ليتخلص من الحيرة، أو بعبارة أخرى ليجد جوابًا لأسئلة ذهنية مُسبقة، وطبيعة القراءة الواعية أنها تبحث عن الحقيقة، فيقرأ بتأمُّل وتدبُّر، فتتولد لديه أسئلة يثيرها الكتاب، وهكذا فكل قراءة ناضجة تثير أسئلة، وتجيب عن أسئلة أخرى.

والكتاب الذي يجعل القارئ في حوار مستمر هو الذي يحتاجه القارئ، أما الكتاب الذي لا يثير الذهن ولا يجعله يتساءل، فهو إمَّا لا يستحق القراءة؛ أو أن التعامل معه كان بطريقة خاطئة؛ فهناك من الكتب ما لا يصح قراءتها دون قلم وورقة وحضور ذهن، فالكتاب الساكن البارد غالبًا ما يتوقف القارئ عن قراءته، وقد يجعله يزهد في القراءة.

الكتاب بطبيعته صامت، لكن القارئ الجيد هو الذي يجعل كتابه يتحدث معه، فيحوِّل القراءة الراكدة إلى تيار متدفق من الحوار والجدل المثمر، فالقارئ المتبصِّر يسأل عن معاني الكتاب ما تعني؟ ويسأل عن المقاصد والمآلات التي يطرحها الكتاب، ويسأل: ماذا لو...؟

ومن الطرق الجميلة في محاورة الكتاب أن تضع نفسك مخالفًا للكتاب ولو من باب الجدل، فتجعل نفسك الشخص المقصود بالكلام، فتُحدِث المخالفة عمدًا وقصدًا؛ كي تثير الكتاب، ولتجد طريقًا يقودك نحو أعماق الكتاب، وترتقي لديك درجة النقد؛ فالنقد يكشف لك مواطن القوة والضعف في الكتاب، ولا يتولد النقد إذا كنت مستسلمًا مذعِنًا لكل ما يقول، بل لن يَهَبك الكتاب كل ما فيه حتى تهزه أنت قبل أن يهزك، وتُحاوره قبل أن يحاورك.

مبارك عامر بقنه

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA