مدننا تحترم «المركبات» أكثر من «الإنسان»

لا شك أن كل إنسان يهتم بالمحافظة على صحته ويحرص على العيش في بيئة صحية، والصحة تكون في الجسد عن طريق المشي والحركة والانتقال من مكان لآخر، وتكون أيضا في النفْس عن طريق الأنشطة واللقاءات الاجتماعية بشكل شبه يومي مع الأصدقاء، وتكون أيضا في النفسية وذلك عن طريق توفير التشجير المناسب واستغلال أشعة الشمس، ولكن هل بالفعل مدننا صحية؟!

لو قمنا بالمقارنة مع الغرب، وتحديدًا في أوروبا نجد أن التخطيط والتصميم للمدن بدأ بالاهتمام في الإنسان وأنشطته قبل أن يبدأ في المركبات، فتم توفير النقل العام، ومسارات للدراجات البخارية والهوائية، وحتى المعاقين كان لهم نصيب من الرعاية والإهتمام، وكان التخطيط بشكل وظيفي يهدف إلى إيصال المستخدم من مكان إلى آخر بسهولة ووضوح، وأيضا كان بشكل عضوي بهدف زيادة المتعة وإزالة الملل بالنسبة للمستخدم وهو يقضي حاجاته اليومية.

وكذلك تم توفير كل ما يساعد على الحركة من مظلات ورصيف للمشاة وتقليل لعرض الشوارع وغيرها، وكذلك وجود ساحات في المدينة والتي لها دور كبير في إضفاء العلاقات الاجتماعية وقضاء أوقات سعيدة بصحبة الأهل والأصدقاء، والتعرف على مظاهر وثقافة المدينة من خلال هذه الساحات، وأيضا إيجاد مسطحات خضراء تهدف إلى تحقيق الإستدامة في داخل المدينة، كالتخفيف من الضوضاء وأخذ ثاني أكسيد الكربون وإنتاج الأكسجين والوقاية من أشعة الشمس المباشرة.

وكذلك من النواحي الجمالية التشجير الذي قد يكون للدلالة على وجود مكان ما، أو للجلوس والتأمل، ومن هنا تأتي رغبة الساكن لتلك المدينة بقضاء حاجاته اليومية وهو يمارس رياضة المشي وبالتالي تحقيق أهداف المشي الصحية من تخفيف الوزن وتحسين وظائف المخ والوقاية من السمنة وغيرها.

بينما لو نظرنا إلى مدننا العربية، نجد أن التخطيط بدأ باحترام المركبات أكثر من احترام الإنسان وأنشطته، فظهرت لنا الشوارع العريضة والتقاطعات الكبيرة والجسور والكباري والأنفاق المبالغ فيها، ناهيك عن القيمة الاقتصادية الكبيرة التي تمت خسارتها في إنشاء البنية التحتية لمثل هذه المشاريع، وناهيك أيضا عن الضرر الكبير الذي لحق بنا من تلوث واختناقات مرورية وضوضاء عالية تؤثر حتى على نفسية الساكن، وبالتالي زاد الاعتماد على المركبات في عملية الانتقال من مكان لآخر، وقل الاهتمام بالمشي لعدم وجود ما يشجع على ذلك، وبالتالي فقدنا واحدة من العادات التي يجب على الإنسان أن يقوم بها بشكل يومي، وظهور أعراض بعد ذلك من أمراض السمنة والسكري وزيادة التوتر والضغط وغيرها.

أرصفة المشاة تكاد تكون معدومة لدينا وإن وجدت فلا يتوفر بها الخدمات المطلوبة من صرافات وأماكن انتظار النقل العام أو كراسي جلوس وإنارة أو تشجير أو مقاهي، والساحات لدينا أيضا تكاد تكون معدومة، وإن وجدت فهي محاطة بطرق سريعة ولا يوجد لها مواقف تكفي ولا وصولية سلسلة لسكان الأحياء المجاورة عن طريق المشي، ولا يوجد بها أنشطة وبالليل تكون مظلمة وموحشة، ولا تحتوي حتى على عناصر وسطية لتكون نقطة جذب قوية للسكان، والتعبير عن ثقافة المجتمع الذي يعيش داخلها.

وبالتالي أصحبت ثقافة المشي والتي تعتبر من الثقافات العالمية، مفقودة لدينا، فأصبحنا نستنكر على من يمشي لقضاء حاجاته أو لممارسة هذه الرياضة، معللين ذلك بوجود المركبات وتوفر الطرق المناسبة لها، ونسينا أن نطالب بممرات وساحات وميادين للمشاة، وأن ننشر بين أنفسنا ثقافة المشي وفوائدة العظيمة، خصوصًا في ظل هذا التمدن العمراني الهائل.

ومضة: يقول برنارد شو «لم أمارس من الرياضة سوى رياضة المشي على قدمي في جنازات أصدقائي الذين كانوا يمارسون الرياضة».

م. محمد أحمد عسيري

جامعة الملك سعود

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA