من عُسر الكتابة إلى يُسر القراءة 

خارج الصندوق:

ثمة اتهام شبه دائم للقارئ العربي بأنه أقل مستوى، من الناحية المعرفية، من النص الكتابي، لذا عليه أن يخضع لمنظومتين «إكراهية واستلابية» تُبقيان عليه في طور التلقي السلبي أو التسليمي للنصوص المختلفة، بما يمنع عنه الانتقال إلى طور تفكيك هذه النصوص والتعامل معها تعاملاً نقدياً.

ويبدو أن القارئ «العادي» قد صدّق هذا الاتهام مع الأيام، وأصبح يعيش حالة من الهوان، كلما تعرض لنص لا يتواءم والمعارف التي وصلت إليه، إلى درجة بدأ يشعر معها بضرورة إنزال لغة الخطاب إلى مستواه المعرفي، أو التهديد بعدم القراءة من أساسها.

ما بين الكاتب والقارئ والنص، ضاع علينا الكثير، إلى درجة أننا تُهنا في صحراء معارف سطحية، حطت من قيمتنا الحضارية، وجعلتنا نلهث خلف وهم تفوقنا المعرفي، في حين أننا -واقعياً ومنطقياً- عاجزون عن إنتاج معارف من شأنها إحداث انقلابات جذرية في مفاهيمنا التي تبنيناها منذ زمن طويل حول الوجود كاملاً، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.

المنظومة الأولى «الإكراهية» تقوم على أساس تقزيم المَلَكة العقلية عند القارئ العربي، ووفقاً لمقتضيات هذه المنظومة، يتمّ الانحدار بلغة الخطاب إلى لغة مبتذلة وغير قابلة للعيش لوقت طويل؛ فهي للاستهلاك اليومي ليس إلا، على اعتبار أن القارئ غير مُهيّأ مبدئياً للتعامل مع نصوص معقّدة أو مُركّبة، بما يُبقي عليه كما هو دونما تحريك لقناعاته المعرفية.

هَهُنا يشترك الكاتب والقارئ، إلا القلّة القليلة، في تعزيز أبجديات المنظومة الإكراهية، وذلك بدفعهما ناحية تأكيد ما هو مؤكّد في العقل الجمعي، وعدم العمل على الإتيان بخطاب جديد من شأنه إحداث بلبلة في العقول، سواء أتت هذه البلبلة من عدم فهم الخطاب، والعمل على تفكيكه تفكيكاً نقدياً، أو من خلال تطوير الكاتب لأدواته الكتابية، والدفع بها قُدماً ناحية مساحات جديدة، غير مستهلكة وغير مبتذلة، بما يجعلها أكثر قدرة على مواكبة التطوّرات المعرفية الكبيرة التي تحدث في العالَم.

أما الإبقاء على الخطاب المعرفي –سواءً أنُشِرَ في صحيفة أو مجلة أو موقع إلكتروني أو كتاب- في حدود المفاهيمية المُتداولة، فهو اجتراء كبير على قدرة العقل الإنساني، وحَجْر مبدئي عليه، ورهن له لقوالب جاهزة وناجزة، فهو غير قادر على التحرّك قيد أنملة خارج ما يعرفه ويفهمه، لذا من الضروري مخاطبته بلغة يفهمها، لكي لا تنخدش منظومة عدم الفهم عنده، ويدخل في نوع من المحارجات المعرفية التي لم يعتد عليها مسبقاً.

أيضاً يشترك الكاتب والقارئ في تعزيز النمط الإكراهي، لناحية استخدام لغة مُحافظة -من قبل الكاتب- في تدويل الخطاب وتعميمه، حتى لا يصار إلى ما يحمد عقباه بالنسبة للقارئ، وبالتكرار صدّق القارئ أنه على الحق المبين، لذا صار يبحث -بحثاً شغوفاً- عن كل ما من شأنه أن يُبقيه على قناعاته، ويُطبطب على ظهرها المتين، وينبذ كل ما من شأنه أن يهزّ له قناعاته، ويتركه نهباً لشعور معرفي متوتّر، فهو ربيب اليقينيات، والنصوص المُتداولة -في العموم- لا تُعزّز ثقافة الشكّ، بقدر ما تُؤمِّن على تلك اليقينيات، وتدفع باتجاه تثبيتها تثبيتاً نهائياً في عقول الناس.

ووفقاً لاعتبارات عدم فهم الخطاب وعدم هزّ القناعات الراسخة، تمّ تقزيم القارئ العربي، فصارت قامته المعرفية لا تفي بغرضه الحضاري، فَتَحْت الحفاظ على مستواه المعرفي كما هو، انكفأ إلى الداخل، وبدأ يجترّ معارفه المرة تلو الأخرى، إلى حدٍّ أصابه بالتخمة، فصار طوله وعرضه سواء بسواء نتيجة السمنة المفرطة في حالته العقلية، وعدم انتقاله إلى مساحات جديدة، من شأنها إنهاك عقله إنهاكاً بديعاً، يُسبّب له رشاقة دائمة في جسد عقله المُتخم.

بإزاء المنظومة الإكراهية وتداعياتها المؤلمة على مجمل السياق الثقافي العربي، ثمة منظومة استلابية، تُؤسّس لحالة احتكارية، يمكن بسط المقال حولها في أعداد قادمة، والخلوص إلى فكرة القارئ العبقري، بصفته بشارةً يمكن أن تنهض بالأمة، وتجعل من الحِراك المعرفي، حِراكاً دائباً ودائماً.

عباس معاذ - بتصرف

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA