التقاعد حياة جديدة تستحق الاحتفال

تنظر إلى رزنامة التقويم، تقلب ورقاتها جيئة وذهابا، ترجع للوراء قليلا ثم تمضي للأمام ببطء، تتسمر عيناك عند إحداها وتدون تاريخها في ذاكرتك، تميزها عن أخواتها، لماذا هذا الاهتمام والانشغال بهذا اليوم، فهو لا يعدو أن يكون أحد أيام السنة!

أجل، إنه كذلك، لكنه يحمل تاريخا ينذر بساعة الانفكاك والافتراق عن وظيفتك الحالية، فقد حانت ساعة الفراق وستغلق روزنامة التقويم في غير رجعة، فها هي صحيفة تقاعدك ورقة واحدة لا تتعدى العبارات فيها عدة أسطر يتصدرها اسمك وعبارة «إحالة إلى التقاعد» اعتبارا من تاريخ ورقة الرزنامة التي تسمرت عيناك عندها سابقا. 

في البدء ستمر بمرحلة صعبة من عدم التوازن الاجتماعي والنفسي والمالي، ستفتقد إلى علاقات العمل وضجيج زملاء المهنة، وفد ينتابك شك في قدرتك على العطاء والمساهمة من جديد أو الانخراط في فعل حياتي جديد، سينزع بقاؤك في البيت لفترات طويلة قدرتك على الحركة ورغبة العمل، سترتكب أخطاء كثيرة في استثمار الوقت بل قد تتلبس بعادات سيئة، وستأخذ من تفكيرك الهواجس المالية والصحية مأخذها، وستجد نفسك تدور مع طواحين الهواء تقذفك مراوحها وريشها في دوامة الريح قلقا وتوجسا وخيفة. 

لا تحزن، فنحن جوقة المتقاعدين ينتابنا الخوف والحزن وتعصف بنا الظنون والأوهام في لحظة الانتقال والتحول من ماض معروف الى مستقبل  مجهول، لكنك اليوم أمام خيارين إما أن تقفل الباب وراءك وتندب حظك وتشتكي عمرك الذي أسرع في الانقضاء وتجلس القرفصاء تناجي الهم وتتعلم منه فن التثاؤب والاحتباء، أو أن تدير الدفة من جديد وتعيد دوران بوصلة حياتك في اتجاه آخر في مغامرة جديدة تحمل بين طياتها الإثارة والمتعة والفعل الجديد والأهداف والتوجهات الجديدة، تماما كأنما بدأت من جديد أو للتو عرفت تاريخ ميلادك، فنحن الكبار نتمنى ونحلم كما يحلم الصغار غير أن أحلامنا مشوبة بالخبرة والتجربة السابقة وقد لا ينقصها روح المجازفة والمغامرة.

ستكتشف في رحلتك الجديدة عالمك الداخلي وستقف مشدوها أمام ما تختزنه ذاكرتك الشخصية عن إنجازاتك وأفكارك ومواقفك السابقة، عن قراراتك ونجاحاتك بل حتى إخفاقاتك وأخطاءك ستكتشفها من جديد، وعندها ستجد نفسك مشدودا بعفوية إلى أن تمجد ذاتك وتحترم كل خياراتها السابقة، بل ستتصالح معها وتغفر لها تقصيرها وخطأها، فهي التي ستقف معك عند مفترق الطريق وستخط معك فصلا جديدا في حياتك لتقول للعالم من أنت وماذا أنجزت، إنها بصمتك السابقة وبقي لك بصمة أخرى فيما وراء التقاعد.

لمَ لا توقد مشاعل الفرح وتضيء الليل بأنوار المرح، لما لاتنتهز الفرصة لتحتفل بالتقاعد باعتباره منجزك العظيم، فهو غاية النجاح في عملك الوظيفي ونهايته الجميلة الحالمة، نعم احتفل بالتقاعد حتى لو لم يكن في قائمة أهدافك فهو التاج الذي لم تقصد التتويج به وميلاد حياة جديدة لم تحلم بها من قبل وهنا يكمن جمال المفارقة وتفردها.

استمتع بالحياة مع التقاعد، اغمر نفسك في معتركها من جديد، ولاتنسى في غمار ذلك كله أن تزيد رصيدك مع الله، فلا يغلبنك الشيطان في معصية ولا يقعد بك عن طاعة ولا يثنيك عن معروف، فإن كنت في نقص سابق فقد جاءت المهلة لتعوض ما فاتك، وإن سنحت لك الفرصة في عمل الخير فلا تتردد أو تتراجع.

ولا تديم المكث في البيت فأنت بحاجة إلى أصدقاء جدد فهم رصيدك الرائع في العلاقات الإنسانية، والحياة تتطلب وجودك وحضورك الفاعل في كل مناشطها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، قم بعمل شيء جديد، تعلم لغة أو علماً جديداً، غامر في تحد جديد تنقش على جبينه إبداعاتك وتفردك الجميل.

سافر إلى مكان أعيتك الحيلة سابقا وضاق بك الوقت عن زيارته، تضلع بالهم الثقافي أو الاجتماعي، جرب نفسك في الكتابة مثلا قد تكتب تجربتك الشخصية في التقاعد وقد تؤلف كتابا مرجعا في جمال التقاعد ومنافعه، فكر كيف تستطيع أن تستثمر أدوات التواصل الاجتماعي في الفضاء الإلكتروني للمشاركة في تنمية المجتمع فكرا وسلوكا، وقد تكون مستشارا لعلم ما أو قد تبدأ عملا استثماريا خاصا بك، فقط احذر من الانزواء والانعزال واستشرف المستقبل بعيون حالمة وهمة عالية، وستجد وقتها أن المتعة حياة جديدة مع التقاعد. 

د. عبدالإله الحيزان

كلية العلوم - كيمياء

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA