موقف تربوي طريف داخل قاعة المحاضرة

أحكامنا على الآخرين – غالباً – ما تكون نتيجة لمدركاتنا الذهنية التي قد تبتعد عن الحقيقة، وهذا يعود إلى جملة من العوامل المؤثرة على إدراكنا الذهني لما حولنا، ومن تلك العوامل «الخصائص الشكلية للشخص»، فقد يرسم أحدنا صورة ذهنية معينة عن شخص ما بناء على طوله، أو وزنه، أو أي مظهر من مظاهر شكله، وقد تكون هذه الصورة ظالمة على خلاف الشخصية الحقيقة «في الواقع».

ولا أخال أن أحداً لم تمر عليه في حياته مواقف وقعت منه أو عليه من هذا القبيل، لاسيما لمن سمع عن شخص ولم يره من قبل، وقد ذاع صيته، واشتهر على ألسنة الناس اسمه؛ لعلمه أو تميزه، فيرسم في ذهنه صورة عنه وفق سماعه، حتى إذا رآه يوماً بعينه وجده على خلاف الصورة الذهنية التي رسمها وأودعها في سجلات ذاكرته، فتحصل مع مثل هكذا مواقف طريفة، ولطائف تعلق في الذاكرة، فيها المتعة والفائدة والحكمة والدرس الجميل في الحياة.

تأملوا معي هذا الموقف الظريف اللطيف الماتع الذي حصل للشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ  داخل جامعة عراقية - في بغداد – وقد كان منتدبًا لتدريس الأدب في إحدى كلياتها، حيث قام الشيخ الطنطاوي يومًا قبل ذهابه إلى الجامعة بالتجول في بغداد، ومشى كثيراً، حتى أرهقه التعب، وبدا عليه الإعياء، فكان في حالة يرثى لها، فدخل الجامعة وهو على هذا الحال، ثم أدلف إلى قاعة المحاضرة، ودخل على الطلاب، وكان عندهم – لحظة دخوله - مدرس ما زال يلقي محاضرته، فظن هذا الأستاذ أن الداخل على القاعة أحد الطلاب، فقال له: لماذا تأخرت عن المحاضرة؟! فما كان من الشيخ الطنطاوي إلا أن قدم اعتذاره، وأبدى أسفه لتأخره غير المقصود، وطلب عفو الأستاذ، ثم جلس الشيخ الطنطاوي مع الطلاب في القاعة، يسمع المحاضرة.

دقائق معدودات مضت، بعدها يتحدث الأستاذ قائلاً للطلاب: «سيأتيكم معلم لتدريس الأدب، وهو الأديب الكبير علي الطنطاوي، فلا تسودوا وجهي أمامه»، ثم رأى هذا المدرس أن يسأل طلابه في الأدب والأدباء، ريثما يأتي مدرس الأدب «الطنطاوي»، وما كان من الشيخ الطنطاوي إلا أنَّه يجيب على الأسئلة، بأدب جم، كأنه واحد من الطلاب، فتعجب الأستاذ من إلمامه بالأدب قائلاً: أنت طالب جيد ما اسمك؟ «فأجابه: اسمي «علي الطنطاوي»، فكاد الأستاذ أن يغمى عليه، ثم قام إليه معتذراً عما بدر منه، والشيخ يضحك مع الطلاب لظرافة الموقف، الذي استغله الشيخ الطنطاوي أروع استغلال، أخرجه عن دائرة الحرج، الذي قد يقع فيه غيره لو كان صاحب هذا الموقف!

ومع متعة هذا الموقف، وظرافته، فقد تعلمنا منه درساً مهماً في حياتنا، وهو أن المعرفة الجيدة لكيفية عمل إدراكنا الذهني، والوعي التام الناضج لمن حولنا، يجنبنا سوء فهم سلوك الآخرين، ويحد من الحكم عليهم بالخطأ، كما يكسبنا مهارة التعامل الراقي مع الناس.

ومضة: عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيراً كثيراً قد لا تراه العيون أول وهلة.

فهد عبدالقادر الهتار

خريج جامعة الملك سعود – دكتوراه – كلية التربية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA