خلك ذيب!

 

في أحد المطاعم وبأمرٍ من الجوع؛ وقفوا ووقفتُ معهم مُشكِّلين قاطرة طويلة في «شبه انتظام» مصطفّين «في ملل» أملًا في الوصول إلى ذلك «المحاسب» الذي لا تفارقه الابتسامة؛ لنُملي عليه طلبات الِمعَدِ الخاوية، وإذا بجملةٍ آمرة متنهّدة؛ سُمِعَ حرفها الأول آخر «القاطرة» وانتهى حرفها الأخير بجانبي، وأنا في وسط هذا الاصطفاف الممتد ... «خلك ذييييب»!

التَفتُّ كالبقية؛لأرى مصدر هذه الجملة وإذا بها من أب لطفله ذي العشر أعوام، وبينما نحن نلتفت، إذا بالطفل قد شرع في تنفيذ الجملة الآمرة بتفاصيلها؛ فلم نُدِر رؤوسنا إلا والطفل قد أصبح في أول الاصطفاف متجاوزًا «المنتظر الذي ملّ صبره»، و«الشبه» منتظم، وأنا، والقاطرة البشرية الطويلة برمتها، دون أدنى اعتبارٍ، ولا «ضرب حساب» لا من الأب القدوة، ولا من الطفل المغلوب، وقد علت محياه ابتسامة تعانق ابتسامة ذلك المحاسب هناك ونحن ننظر!! 

نعم؛ فالطفل في هذه المرحلة العمرية، مغلوب على أمره أمام أب متسلط، وأمام جملة منتشية؛ ظاهرها الشجاعة والفتوة والبطولة عند من بلغ الأربعين من العمر، فما بالك بطفل العشر سنين حين يُقال له: «خلك ذيب».

تلك الجملة التي اختزل فيها معظم مجتمعنا؛ معاني -سلبية في عمقها- لتُمَرَّر إلى ذهن الأبناء، فيحوِّلوها إلى مرحلة التنفيذ، في شتى معطيات الحياة؛ ليحقِّقوا بها أهدافهم بأي وسيلة كانت، وإن تجاوزوا النظام والقانون والعرف، وحتى الدِّين غير عائبين!

فيبارك الأب ابنه، ويهلل له مشجعًا ومُعجبًا؛ بأنَّه كان ذئبًا، وإن نهش من حوله، وافترس ما بقي في ذاته من أخلاقيات، وتعاليم إسلامية راقية، تحثنا على الاحترام والتقدير والانتظام والأمانة والصدق وكل سلوك قويم.

ومن باب النصح تارة، ومن باب التربية تارة أخرى؛ نسمع ونردد: «خلك ذيب» في غير مواضعها!! لمَ لا؟!! وهي إرْثٌ تسلل إلى معتقداتنا وأفكارنا -دون وعي- من خلال ترسبات ثقافية؛ وتربوية، واجتماعية، مصدرها الماضي السحيق، الذي كان يسوده شريعة الغاب، والبقاء للأقوى، فأصبح وأضحى هذا الإرْث، ثقافةً يُؤمن بها البعض ويعتنقها!! فهذا ابْن أبي سُلمى «زهير» شاعر الحكمة يقول:

ومن لا يذُد عن حوضه بسلاحه

 

يُهدَّم ومن لا يَظْلِم الناس يُظلَم!!

 

هذا البيت يتربّع اليوم في مناهجنا ويردِّدُه الطَّلبة وتُعزّزه مقولةٌ من صديق أو من الأسرة كمقولة «إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب» ناهيك عن مقولات أخرى، وأمثال شعبية عدة، تُسْمَع ويُتَغنَّى بها، تدور في الفلك ذاته، مزاحمة للقيم، والمُثل العليا التي يزخر بها ديننا الإسلامي الحنيف، وتسطّرها مناهجنا الدراسية، ولكن...!!

ومن خلال هذا النسق الثقافي والتربوي المتوارث، لا يُسْتَغرَب الفساد ومظاهره وممارساته في المجتمع، وانتشاره بين أفراده ومسؤوليه، واستشراؤه في المؤسسات على اختلافها، وحضوره بين الأبناء؛ من سرقات، وتعدٍّ، وعنفٍ، وقتلٍ، وخيانةٍ، وكذبٍ، وظلمٍ، وتدليسٍ، وغشٍّ إلخ... وكل ذلك ليكونوا من فصيلة «الذئاب» فلا يرون من الآخرين؛ إلا قطيعا من الخراف، أو ذئاباً مسعورة بهم تتربص؛ تنفيذًا لوصية «خلك ذيب»!!

عماد عباس الزهراني

طالب دكتوراه

قسم السياسات التربوية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA