دوافع خفية وراء عدم الادخار «1 - 2»

 

 

بين الادخار والإنفاق ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف، مُنفق شَرِه، وهذا ما نسميه في ثقافتنا العربية بالمبذر، ومدخر طول الوقت وهذا ما نسميه بالبخيل، وما بينهما وهو ذلك المتحكم في ذاته الذي يعرف كيف يوجهها، يكبح جماحها حينًا بالادخار ويمد لها حينًا آخر بالإنفاق، وبين الثلاثة نرى الصنف الأخير أكثر واقعية وفائدة لذاته وللحياة كونه متوازنًا لا يميل، ونحن هنا لنتلمس معًا بعض الأسباب النفسية التي تدفع الناس للإنفاق أو الادخار.

• الطفولة: للطفولة والتنشئة جزء كبير من الفضل في تكوين شخصياتنا وما يتعلق بها من عادات، كونها الوعي الأول الذي مارسناه، والتجارب الأولى دائمًا وأبدًا ما كانت بهذا الرسوخ وذاك الثبات الذي يجعلها مؤثرًا قويًا لا يزول، فكثيرًا ما رأينا نموذج الإنفاق أو الادخار المبالغ فيه متكررًا بين الأب وابنه، ففي دراسة هولندية وجد الباحث أن التربية المالية للأولاد أدت إلى زيادة بنسبة 2% في القابلية للتوفير وتقليل بنسبة 1% في الاقتراض، كما أدت إلى انخفاض الديون وزيادة المدخرات حسب بيانات البنك المركزي الهولندي.

كما أن الأطفال يقلدون سلوكيات والديهم فإنهم كذلك يتأثرون بالضغط السلوكي بطريقة معينة، على سبيل المثال «لا تنفق الكثير من المال على الحلوى».

وكذلك فالآباء يؤثرون بطريقة غير مباشرة على النوايا السلوكية لأطفالهم عن طريق السيطرة على بعض تصرفاتهم مثل حظر بعض المشتريات، لكن هذه ليست قاعدة أصيلة يُعتمد عليها، فهناك كثير من الأبناء يخالفون آباءهم في تلك العادات ويتفردون بطبيعتهم الخاصة.

• معدل الشبع: في تجربة مبكرة على الأطفال، قدم باحثون في جامعة ستانفورد قسم دراسات أطفال الحضانة؛ صندوق هدايا يحتوي على «حلوى، ومعجنات مملحة، وبسكويت» لمجموعة من الأطفال الصغار، قائلين لهم إنهم باستطاعتهم مضاعفة العدد والحصول على قطع حلوى أخرى بشرط أن يكتفوا بأكل شيء واحد فقط مما في الصندوق خلال مدة معينة، بالتأكيد نجح البعض في تنفيذ هذا الشرط وأخفق البعض.

وعبر متابعات عمرية ممتدة لهؤلاء الأطفال إلى ما بعد سن البلوغ تم التوصل إلى أن أولئك الذين كانوا قادرين على تأخير إشباعهم حققوا نجاحًا أكثر بكثير في الحياة من أولئك الذين هموا بتناول جميع قطعهم ولم ينتظروا الوقت المحدد.

إذا كنت مُنفقًا، لا يمكنك تأخير الإشباع، تمامًا مثل الحلوى، لا يمكنك مقاومة الرغبة في الحصول عليها الآن حتى لو حظيت منها قبل ذلك بالكثير، هذا هو السبب في أن حسابك البنكي لم تدخر فيه كثيرًا من الأموال، ومع ذلك لم يزعجك الأمر، بل على العكس كنت سعيدًا وأنت تنفق أموالك في الشراء والتبضع، وحتى لو كان لديك مصدر ما للدخل يؤمّنك ويُشعِرك بالراحة، فإنك إذا شعرت أنك تتجه نحو حالة مَرضِّية من الإنفاق، فربما يجب عليك التفكير في كبح جماح الإنفاق والتوجه نحو الادخار.

• سهولة تسديد الأموال: لم تعد بحاجة لجلب أموالك المعدنية في صرة لتدفعها في مقابل حاجياتك ومشترياتك كما كان يفعل أسلافنا في الماضي البعيد، ولم تعد كذلك بحاجة لجلب نقودك الورقية الكثيرة وعدها جيدًا ومن ثم تسليمها للبائعين، فقط ضغطة زر بإمكانها اختصار كل ما سبق، الشراء الآن صار أسهل من الماضي بكثير ووسائل سداد الأموال اللحظية صارت متوفرة للجميع، الأمر الذي يصب في صالح الإنفاق ويبتعد بالناس عن فكرة الادخار، فملامسة المال والشعور به ماديًا أمامنا وبين أيدينا يعزز من قيمته في نفوسنا ويذكرنا بلحظات شقائنا ربما في الحصول عليه، مما يبعدنا بشكل أو بآخر عن الإنفاق الكثير، ويحضنا على الادخار، وهذا ما لا يتوفر في السداد الإلكتروني.

لذا فإننا ننصح في هذا الإطار أن نعتمد بشكل أو بآخر على المحاسبة بالكاش ولو بشكل جزئي، وذلك كي نحفز أنفسنا ونحضها على الشعور بقيمة المال، وبالتالي نحتفظ لأنفسنا بصلة تقودنا بشكل أو بآخر إلى التخطيط لميزانيتنا ومستقبلنا.

د. موسى بن محمد قشيش

مدرب مهارات الحياة في الذكاء المالي

عضو هيئة التدريس بكلية الصيدلة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA