التأمين الصحي والمجتمع «3/5»

زاوية: رؤية اجتماعية

تباينت ردود الأفعال تجاه التأمين الصحي في المجتمع السعودي، فمنهم من رأى أنه تأكيد على حق الفرد في الحصول على الخدمات الصحية وتحقيق العدالة والمساواة، وصولاً إلى الهدف الأساسي المتمثل في توفير الصحة للجميع، وتعميق مبدأ المشاركة بين الدولة والمواطن وبين صاحب العمل والموظف وبين الموظفين أنفسهم، وذلك لتأثيره الإيجابي على الفرد من خلال توفير الاطمئنان الاجتماعي له.

فالفرد بدون التأمين الصحي لن يتمكن من دفع تكاليف المعالجة الباهظة سوى عدد قليل من الأفراد القادرين على الدفع، وبالتالي فإن التأمين الصحي بما فيه من آلية تكافلية يمكن الأفراد من تلقي الخدمات اللازمة ذات الكلفة العالية بمبالغ معقولة. 

في المقابل، نجد من عارض هذا التوجه والرأي وبشدة وحدة، ولا يرى في التأمين الصحي الخير للمجتمع السعودي، بل يراه محرماً، ومفسدة، وأخذاً لأموال الناس بالباطل، ولا يجوز تطبيقه في المجتمع، مستند على ذلك بفتاوى مجامع فقهية دينية وعُلماء معتبرين ومصنفين تصيفاً إيجابياً من وجهة نظرهم.

هذه السلسلة من المقالات العلمية تحاول فك اللبس والاختلاف، وفهم هذا الغموض حول التأمين الصحي في المجتمع السعودي، ليس من الناحية العملية التطبيقية له، ولا من الناحية الدينية الفقهية؛ بل من الناحية الاجتماعية معتمدة على نظرية عالم الاجتماع كارل مانهايم «Karl Mannheim» في دراسة ايديولوجية الجماعة عند تفسير هذا الاختلاف، وذلك من خلال رصد وتحليل مضمون ردود أفعال أفراد المجتمع السعودي تجاه التأمين الصحي؛ ومعرفة تصنيفات أصحاب الجماعات والانتماءات، وهل لهذا التصنيف داخل الجماعة تأثير على أفكار أفرادها، ولماذا يتقبل الرأي من شخص ما حتى لو اختلف معه، ويرفض من شخص آخر له نفس الرأي في جواز تطبيق التأمين الصحي في المجتمع!

إن الفرد لا يستطيع - على حد تعبير كارل مانهايم - أن يفكر بمفرده، ولا يستطيع أن يتمايز أو يختلف بمفرده أيضًا، بل يبدأ بأفكار الآخرين وفكرهم، سواء اتفق مع هذا الفكر أو حاول تعديله أو استبدله بفكر آخر، وذلك لمواجهة تطورات المواقف الاجتماعية.

إن الفرد ينتمي إلى الجماعة لا لأنه ولد فيها، ولا لأنه يسعى للانتماء إليها، ولا لأنه يشعر تجاهها بالانتماء والولاء فحسب، بل لأنه يرى الحياة والعالم في ضوء المعاني التي اكتسبها من الجماعة أو التي طورها داخل الجماعة، فالأيديولوجية المرتبطة بالمصلحة تمنع الأفراد من رؤية المشكلة من جميع جوانبها وتحول دون تحقيق الموضوعية في هذه الرؤية.

المسألة لا تقف عند هذا الحد، فهناك المعرفة الأيديولوجية التي تدعو إلى التصنيف والتبرير، والمعرفة الأيديولوجية التي تدعو إلى العمل، فإذا كانت الأيديولوجية تعبيراً عن التنافر بين الفكر والواقع فهناك حالات من التفكير لا تكتفي بالتنافر مع الواقع، بل تحاول أن تتخطاه فتتحول إلى سلوك وإلى عمل يؤدي أو يهدف إلى تدمير كلي أو جزئي لنظام الأشياء السائدة.

هذه الحالات من التفكير يُسميها مانهايم «يوتوبيا»، فالفرق بين حالات التفكير اليوتوبية وحالات التفكير الأيديولوجية هي أننا في الأولى نصبو إلى أشياء ليست موجودة في الوضع القائم، ولكننا لا نكتفي بذلك بل نعمل على تحقيقها ولو أدى ذلك إلى تغيير أو تعديل نظام الأشياء الراهن، بينما في الثانية فإن آراءنا وفكرنا بالرغم من تنافرهما مع الواقع القائم فإن ذلك لا يمنعنا من أن نساهم فيه، بل نبرر الحفاظ على نظام الأشياء الراهن.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى، وإلى اللقاء. 

د. علي بن أحمد السالم

المدينة الطبية الجامعية

alisalem@ksu.edu.sa

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA