التقنية بين النقل والتوطين.. التجربة السنغافورية

تعد سنغافورة محورًا تقنيًا ومرتكزًا اقتصاديًا هامًا لمنطقة جنوب شرق آسيا، كما أنها في قطاع الصناعة التحويلية واحدة من الدول الأعلى من حيث معدلات الناتج المحلي الإجمالي في العالم، كما أنها من بين الدول الأفضل في العالم في قطاعات الخدمات العامة كالمطارات والموانئ وشبكات الطرق.

يعتمد اقتصاد سنغافورة بشكل كبير على التجارة الدولية، إذ إن صناعاتها الرئيسة تشمل الإلكترونيات والخدمات المالية ومعدات حفر آبار النفط وتكرير النفط وتصنيع الأدوية والمواد الغذائية المصنعة والمشروبات ومنتجات المطاط وإصلاح السفن.

وفي السنوات الأخيرة، تحركت الحكومة للحد من الاعتماد على تصنيع وتصدير الإلكترونيات من خلال تطوير قطاع الخدمات، فضلاً عن الصناعات التقنية الحيوية والكيميائية والبتروكيميائية، ودفعت السكان في سنغافورة الصغيرة نحو الاعتماد على الأسواق الخارجية والتوجه نحو الانفتاح الاقتصادي والتجارة الحرة والأسواق العالمية، وقد تم هذا بفضل السياسات الحكومية التي تعزز التنمية الاقتصادية والعوامل الأساسية في الأداء الاقتصادي القوي لسنغافورة إقليميًا وعالميًا.

واصلت الحكومة السنغافورية تطلعاتها إلى الخارج في سياستها الاقتصادية الموجهة التي تبنتها نحو التصدير وتشجيع التدفقات البينية للتجارة والصناعة والاستثمار، كما تبنت سنغافورة منهج السياسة التجارية للعمل مع الدول ذات الآراء والتوجهات المتشابهة، مثل أستراليا لتعزيز قضية التجارة الحرة، لا سيما من خلال منظمة التجارة العالمية والمحافل الإقليمية.

جدير بالذكر أن سنغافورة برعت إلى حدٍ كبير في سوق «المدن الذكية» وقد أملى ذلك التوجه لديها صغر مساحتها واكتظاظ السكان والتوسع الحضري فيها، مما حداها إلى حل مشاكل الازدحام والتنقل وضمان السلامة وتحسين تدفق الحركة المرورية، وقد أشارت التقارير إلى قيام سنغافورة بنشر عدد هائل من أجهزة الاستشعار وكاميرات الدوائر المغلقة في جميع أنحاء المدينة من أجل رصد وتحليل الكثافة والاختناقات المرورية، مما يمكن المسؤولين من تغيير مسار الحافلات في ساعة الذروة وتجنب الاختناقات المرورية، كما أنها قادرة على التنبؤ بالكيفية التي يمكن للمباني الجديدة وبخاصة الشاهقة «ناطحات السحاب» أن تؤثر على حركة الرياح وإشارات الاتصالات اللاسلكية وخرائط احتمال انتشار الأمراض المعدية داخل تلك المباني.

لم تبلغ سنغافورة ما بلغته اليوم من تقدم وتطور في مجالات الصناعة والتقنية المتقدمة بسهولة إلا بعد عمر مديد وجهد جهيد منذ انفصالها عن ماليزيا في 9 أغسطس 1965 وفي ظل ظروف قاسية لاقتها إثر ذلك من تدهور وتخلف وفقر وانحطاط وقلة موارد وشح مياه إلى جانب تفشي الجريمة والفساد المالي والإداري والأخلاقي.

استطاع «لي كوان يو» مؤسس سنغافورة وباني نهضتها الحديثة أن ينتشلها من كبوة التخلف والانحطاط والنزاعات العرقية وأن يوحد لغتها وأن يجعل منها دولة من أهم دول العالم كما كان يحلم، حيث اعتمدت سياسته فرض قوانين صارمة وعقوبات رادعة حتى سميت ببلد القوانين، كما عمل على الاستثمار في الإنسان السنغافوري من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية للخارج وتطوير المستوى الاجتماعي والصناعي، ولكل هذه العوامل بمجملها شقت سنغافورة طريقها بعزم وقوة وثبات معتمدة على الثروة البشرية والكفاءات المتطورة والمناهج العلمية الحديثة والتي تمثل بمجملها الركيزة الأساسية والقاعدة المتينة لبناء الأجيال القادمة.

إن من ينظر لسنغافورة اليوم يراها رابع أهم مركز مالي في العالم وخامس أغنى دول العالم من حيث احتياطات ومصادر العملة الصعبة، حيث يصل إلى سنغافورة خمسة ملايين ونصف سائح سنوياً، كما بلغ معدل الدخل الفردي من الإنتاج القومي الإجمالي 74 ألف دولار في عام 2015 لتحتل سنغافورة بذلك الترتيب الثالث على مستوى العالم، مما أهلها لأن تتبوأ المركز المالي والتقني الأول في المنطقة.

كما أن ناطحات السحاب في سنغافورة صممت لأن تكون ذات أشكال هندسية جذابة، هذا بالإضافة إلى نظافتها وطيب هوائها وجمال مناظرها إلى جانب شموخ النخيل الوارفة والأشجار الباسقة والحدائق الخضراء النضرة لتجعل من سنغافورة بحق موئلاً للمتعة والراحة وقبلة للزوار والسياح.

أ. د. عبدالله بن محمد الشعلان

كلية الهندسة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA