أهمية الإحصاء بين العلوم الإنسانية والطبيعية «1ـ2»

يمثل التحليل الإحصائي أهمية بالغة في شتّى التخصصات، بوصفه وسيلة تساعد على التثبّت من دقة نتائج البحوث وتفسيرها بموضوعية وعلمية أكثر، خاصة في مواضيع البحوث التي تتطلب بيانات رقمية لتفسير الظاهرة، أو تلك التي تهدف لدراسة العلاقات بين المتغيرات كالارتباطية والسببيّة، وهذا حتماً لا يقلل من أهمية البحث النوعي الذي قدم نتائج باهرة في مواضيع البحوث التي تستدعي توظيفه.

لكن ربما لاحظ البعض أن التحليل الإحصائي في بحوث العلوم الطبيعية لا يُنظر إليه بتلك الأهمية أو الاعتبار كما هو الحال في بحوث العلوم

 الإنسانية والاجتماعية؛ وتأكيداً لذلك نجد أن بحوث العلوم الطبيعية يُكتفى فيها غالباً باستخدام الإحصاء الوصفي عند تحليل البيانات الذي يهدف لجمع البيانات الرقمية وتنظيمها وتلخيصها بطريقة تسهل قراءتها واستيعابها، كحساب التكرار والمتوسط والانحراف المعياري ونحو ذلك، بخلاف بحوث العلوم الإنسانية التي تتعدى ذلك إلى التحليل المتعمق لتلك البيانات وقراءة ما وراءها للتوصل إلى تفسير علمي عميق متعدد الأبعاد والدلالات، وذلك من خلال توظيف التحليل الاستدلالي المبني على نظرية «الاحتماليّة» والذي يتطلب استخدام اختبارات إحصائية تمكّن من التوصل إلى استنتاجات لمعرفة مدى احتماليَّة صحة فرضية الدراسة وتعميمها، كاختبارات Factor Analysis, Anova وما يشابهها.

السبب وراء ذلك يعود إلى اختلاف خصائص كل جانب من العلوم عن الآخر في طبيعة ظواهره وتكوين متغيراته ومدى إدراك الإنسان الحسِّي لحقيقة ظواهره، وهذا الاختلاف في الخصائص انعكس أثره على أسلوب البحث ومنهجيته في كل جانب من العلوم، بما في ذلك طرق تحليل النتائج وتفسيرها ليتماشى مع طبيعة ظواهره.

أحاول في هذا المقال إبراز أهم خصائص كل جانب من العلوم موضحاً ذلك بالأمثلة، ومردفاً بشرح يوضح دور الإحصاء في بحوث العلوم الإنسانية والاجتماعية وطريقة قبول ورفص فرضية البحث بناءً على التحليل الاستدلالي.

* الثباتيّة: في مجال العلوم الطبيعية يتعامل الباحث مع الظاهرة أو موضوع البحث من خلال مواد أو وقائع طبيعية ثابتة ومتطابقة، بحيث يستطيع الباحث تكرار بحثه في الظروف نفسها تماماً، بخلاف الظواهر الإنسانية والاجتماعية التي تعتبر طبيعتها غير ثابتة ومتطابقة ما دامت متعلقة بالإنسان، والسبب أن السُّلوك الإنساني يتغير باستمرار من حال لأخرى في توجهاته وأسبابه ودوافعه ومتغيراته، وهذا يقلل فرصة تكرار البحث بنفس الظروف تماماً.

على سبيل المثال لو قمنا بتسخين ماء عند درجة حرارة 100 مئوية، سنجد أن الماء يبدأ بالتبخر ومن ثم الغليان، ولو أعدنا إجراء هذه التجربة عدة مرات في أي مكان أو زمان فإننا سنحصل على نفس النتائج؛ وهي درجة الغليان الثابتة عند 100 درجة، لكن الحال يختلف بالنسبة للعلوم الاجتماعية، فلو أن باحثاً بحث موضوعاً عن أسباب عزوف الطالبات السعوديات عن الالتحاق بكليات الطب قبل خمسين سنة، فالآراء والتوجهات ستختلف عن الموضوع نفسه لو أُجري قبل عشرين سنة، والتي أيضاً ستختلف لو أُجري الآن.

* الإداراكيّة: في مجال العلوم الطبيعيّة، يتعامل الباحث مع الظاهرة بوصفها حقيقة مدركة بالحواس، أي أن الظواهر الطبيعية يُمكن إخضاعها لإجراءات الملاحظة والقياس بصورة مادية مباشرة من خلال التجارب المخبرية، وهذا الحال يختلف تماماً بالنسبة للعلوم الاجتماعية، حيث يتم التعامل مع الظاهرة بصورة غير مباشرة أو محسوسة؛ بمعنى لا يُمكن إخضاع الظواهر الإنسانية للتجارب المخبرية كما هو الحال في العلوم الطبيعية، ولذلك من المنطقي أن يكون تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية معقداً طالما لايمكن التعامل معها بصورة مادية ومباشرة.

على سبيل المثال، لو تناولنا مخ الإنسان تشريحياً ووظيفياً، لوجدنا أن الباحث في العلوم الطبيعية يستطيع دراسته بشكل مباشر ومحسوس من خلال تشريحه أو تصويره عبر الأشعة للوصول إلى حقيقة معينة، بينما وظائف المخ كالذاكرة والانتباه والملاحظة، لا يُمكن التعامل معها بطريقة مباشرة ومحسوسة، وبالتالي لا يمكن وضعها في ظروف قابلة للضبط الدقيق؛ بمعنى أن الباحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع تحديد مستوى قوة الذاكرة لشخص ما من خلال تشريح مخه أو تصويره بالأشعة، بل يضطر إلى تصميم مقياس على هيئة اختبار يخضع له الشخص، وبناء على استجاباته السلوكية يستنتج الباحث منها رقماً يعطي دلالة تقريبية لمدى قوة ذاكرته إلى حدٍ معين.

* السببية: الظاهرة في العلوم الطبيعية تُدرك بشكل مباشر وحسّي، بمعنى أن متغيراتها واضحة ومحسوسة ما يمكن الباحث من حصرها ووضعها تحت ظروف قابلة للضبط، وبالتالي يسهّل عملية قياسها بدقة عالية وثابتة، وعلى ذلك يستطيع الباحث في العلوم الطبيعية أن يتوصل إلى علاقة حتمية بين السبب والنتيجة للظواهر، فلو أخذنا مثال غليان الماء المشار إليه سابقاً، فإننا سنلاحظ أن عملية تسخين الماء إلى درجة حرارة 100 مئوية «سبب» أدت إلى تبخر الماء وغليانه «نتيجة»، فالسبب وراء هذه الظاهرة مُدرك بشكل مباشر وهو درجة الحرارة، والنتيجة كذلك محسوسة وهي عملية الغليان التي حدثت للماء، فالعلاقة السببية هنا لا تتغير بتغير الزمان والمكان.

لكن في العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإننا لا نجد المعنى نفسه لحتمية السبب والنتيجة، فالعلاقة السببية لا يمكن التوصل إليها بشكل مباشر، أي إن السببية في مجال العلوم الطبيعية مطلقة، بينما تكون نسبية في العلوم الإنسانية، والعلّة هي عدم إدراك الإنسان للمتغيرات بشكل مباشر وحسّي، وبالتالي يصعب قياسها وحصرها، ولذلك تعتبر متغيرات افتراضية، أي إنه لا يمكن قياسها بتكوينها الذاتي بل بأثرها أو تأثيرها المتعلق بسلوك الإنسان. 

أ. سامي سليمان السلمي 

محاضر بكلية اللغات والترجمة

طالب دكتوراه بجامعة بريستول البريطانية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA