التقنية بين النقل والتوطين.. التجربة اليابانية

خرجت اليابان من أتون الحرب العالمية الثانية مهزومة مدمرة متهالكة متداعية، بيد أنها نهضت من كبوتها وشرعت من جديد في بدء إعادة الإعمار والبناء الاقتصادي لتصبح قوة اقتصادية عالمية، خاصة في الميدان التقني والصناعي بالرغم مما تعانيه من نقص كبير في مصادر الطاقة، حيث إن إنتاجها من هذه الصناعات التقنية يبقى ضئيلاً مقارنة مع الاستهلاك، وهذا ما يجعل اليابان أكثر البلدان الصناعية ارتباطاً بالخارج فيما يتعلق بالحصول على موارد الطاقة رغم المجهودات المبذولة لإنتاج مصادر طاقات ذاتية بديلة يمكن أن تقلص من الفرق الشاسع بين الاستهلاك والإنتاج.

من المعلوم أن لدى اليابان محطات نووية لإنتاج الكهرباء يقدر عددها بما مجموعه 54 مفاعلاً في محطات الطاقة النووية، تغطي جزءاً كبيراً من حاجة البلاد للطاقة، بيد أنها تقلصت وتضاءلت منذ أن ضرب زلزال تسونامي اليابان عام 2011 وألحق أضراراً كبيرة بالمحطة العملاقة «فوكوشيما» للطاقة النووية، الأمر الذي تم معه إيقاف العمل بجميع المفاعلات النووية المتواجدة في البلاد، وكانت هذه أكبر كارثة تمنى بها اليابان في مصادر طاقتها.

ولهذا السبب ارتفعت الأصوات المطالبة بتغيير مصادر الطاقة النووية إلى مصادر الطاقة المتجددة التي قد تكون أقل تأثراً في أوقات الكوارث وأخف ضرراً على البيئة، ونتيجة لهذه المطالبات وتلك الضغوط قامت اليابان بالإعلان عن نموذج المدينة الذكية «فوجيساوا»، وهو المشروع الذي أطلقته شركة «باناسونيك» عملاق الإلكترونيات اليابانية المتقدمة.

وتحت الشعار الجديد «الابتكار الذاتي والاستهلاك الأمثل للطاقة» ستقوم هذه المدينة الذكية «فوجيساوا» بتوفير خدمات طاقة مصممة لتنمية سبل المعيشة للجيل المقبل، مما يمكّن المواطنين من توليد الطاقة التي يستخدمونها في منازلهم من خلال الاستخدام الأمثل لتوليد الطاقة الشمسية، كما ستعمل على تحسين الأساليب المعيشية للأفراد من خلال استغلال الطاقة الشمسية إلى جانب تحقيق مزايا أخرى تتمثل في تطبيق معايير الأمان وإمكانية التنقل بحرية تامة والعناية بالمجتمع وتوفير الرعاية الصحية.

في هذا السياق فإن اليابان تعتبر رائدة في تقنية الطاقة الشمسية «الفوتوفولتيك»، بل هي واحدة من أكبر أربع أسواق عالمية حتى الآن في صناعة وإنتاج الألواح الشمسية، وفي اليابان برزت الصناعة الإلكترونية كاختصاص ياباني لا ينافس وأحد رموز التفوق والنجاح لهذ البلد، إذ تعتبر اليابان أول بلد منتج للإلكترونيات في العالم، كما تتمتع العلامات التجارية اليابانية مثل سوني وفوجي وباناسونيك بشهرة عالمية عالية، كما تعتبر أيضًا أول بلد منتج لصناعة الأجسام المتحركة «الروبوتات» في العالم مما جعل هذه الصناعة تتبوأ شهرة واسعة ومكانة مرموقة في مجالات الإعلام الآلي والأجهزة الطبية والتعامل مع المواد الخطرة، هذا إلى جانب الآلات الناسخة ومعدات الاتصالات السلكية واللاسلكية.

أيضاً تعتبر اليابان الأولى والرائدة في صناعة السيارات، إذ تعد هذه الصناعة أحد القطاعات الرئيسة في اليابان الذي مكنها من أن تحتل المراتب الأولى في إنتاج السيارات «تويوتا، نيسان، هوندا».

ولعل مما ساعد على موثوقية التقنية اليابانية هو تبنيها لمبدأ «الجودة النوعية»، حيث لاقى هذا المبدأ صدى واسعاً وحماساً كبيراً في اليابان، وتبنته جميع المصانع والمعامل والمختبرات حتى أصبح مطبقاً في جميع أنحاء اليابان بشكل جدي، وتخضع كل السلع والمنتجات اليابانية الآن لاختبارات قاسية للكشف عن الخلل والعيوب المصنعية أثناء وبعد عمليات الإنتاج.

ولقد أتبعت اليابان ذلك المبدأ بمبدأ آخر هو «الجودة الشاملة»، وأدت هاتان الخطوتان الهامتان إلى تحسن سمعة السلع والمنتجات اليابانية ورواجها على مستوى العالم بعد تعريضها لاختيارات الجودة النوعية الشاملة؛ مما جعل المستهلك يقبل عليها نظرًا لجودتها وخلوها من العيوب المصنعية.

والغريب في الأمر أن كثيرًا من الشركات والمصانع العالمية أساءت في ذلك الوقت فهم الحقيقة الجديدة الحادثة بالسوق وعزت ظاهرة اتجاه الزبائن لتلك المنتجات اليابانية إلى عامل السعر الأقل، فعمدت إلى ضرب الأسعار وتخفيضها، وعلى أية حال فإن اليابان تعتبر قوة صناعية كبرى اعتمدت على تطوير التقنية والبلوغ بها إلى أقصى درجات التطور والتفوق والكمال.

أ. د. عبدالله بن محمد الشعلان

كلية الهندسة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA