إحلال التميز التنافسي محل الجودة في التعليم

تُعد الجودة أو ما يسمى حالياً التميز التنافسي بين الأقسام في الجامعات ثمرة لقناعة ذاتية ورغبة جانحة من قبل أغلبية الأساتذة المنفذين في الميدان, ويتحقق ذلك عندما يتلقون الدعم المباشر والتشجيع المستمر من قياداتهم, وليس عن طريق إشغالهم بتعبئة نماذج طويلة فرضت متطلباتها عليهم وأكثرها غير قابلة للتطبيق.

الجودة التي تسعى الجامعات وقطاعات التعليم الأخرى لتطبيقها لا تستورد ولا تستنسخ من بيئات أخرى لها ظروفها العلمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمعيشية, ففي فنلندا على سبيل المثال, يجب أن يكون معلم التعليم العام حاصلاً على درجة الماجستير كحد أدنى, وله الحرية في اختيار أفضل الطرق لتعليم طلابه, ويتميز المعلمون فيها وفي اليابان بامتيازات الأطباء والمحامين, فإذا أردنا تطبيق جودتهم في البيئة المحلية فلا بد أن نستورد معها مقومات ومميزات بيئاتهم!

كما لا يمكن قياس الأداء البشري في قطاعات التعليم من خلال نظريات جامعدة وضعت لتطبق في المصانع أو الحياة العامة، إذ لا يمكن إدخال مواصفات سلوك الأداء الإنساني في آلة للحصول على مخرجات تحدد مستوى تميزه أو درجة جودة أدائه, وإنما توجد مؤشرات يمكن الاستدلال بها على جودة الأداء وذات دلالة ملموسة على فعل الأشياء الصحيحة من المرة الأولى.

الجودة التقليدية أمست في حكم التقاعد على مستوى العالم, والجامعات ما زالت تستثمر في موضة إدارية انتهت صلاحيتها, إذ شُكلت وكالات للجودة في الجامعات والكليات ولجان في الأقسام غرضها تجميع معلومات تخدم التقويم الذاتي, ومن ثم استيراد مقيّمين والصرف عليهم وعلى اللجان بمبالغ سخية, وقد حان الوقت لإحلال التميز التنافسي محل الجودة في التعليم بدءاً من القاعدة.

يقول «ورغن 2006 , 21-22»: «مع أن الجودة النوعية أو الشاملة والتحسين المتواصل في الأقسام أمر مهم، إلا أنها أصبحت رطانة بالية, ومن بقايا موضة إدارية عابرة تم استيرادها إلى أوساط أكاديمية غير راغبة فيها على الأغلب». ويقول: «الجودة الشاملة مصطلح يسهل استخدامه ويصعب تعريفه وقياسه, وهو مفهوم يثير قلق الكثير من الأكاديميين».

ويقول «غارفين 1988, 29»: «خبرتنا تجعلنا نميز الجودة النوعية ونتبناها حين تقع أنظارنا عليها, لكن لا تتوقعوا منا أن نخبركم ما الذي جعلنا نتبناها أو كيف نتبناها». ويؤيد هذه الرؤية «ورغن 2003, 30» إذ رأى أن امتلاك مختص لمعرفة ضمنية مصقولة جيداً بالحقل الذي يعمل فيه هي واحدة من سمات التميز التي يتصف بها المختص.

لذلك تُعد الجودة من التعابير المعرفية التي لا يمكن التعبير عنها أو صوغها بكلمات, لكنها تفهم ضمنيا لأنها غير قابلة للقياس، ومع ذلك فالنظرة الإيجابية الضمنية إلى الجودة لم تعد تحظى بالقبول في كثير من مؤسسات التعليم العالي، بعد أن فقدت القداسة من وجهة نظر «ريمسكي 1993, 31»، إذ لم تعد الجامعات في منعة من ضرورة إبداء قابلية للمحاسبة العامة وتحمل المسؤولية نحو تميز أدائها.

ربما يمكن الإفادة من التميز التنافسي بمفهومه الحديث المطبق في جامعات رائدة في حالة توافر عدة عوامل، منها حرية الأساتذة في تغطية مفردات متطلبات المقرر الدراسي وفق الخطوط العريضة المقرة من المجالس العلمية, وهذا الأسلوب يعني الثقة في قدرات الأساتذة وتأهيلهم بما يتيح لهم اختيار موضوعات منوعة لكل محاضرة من عدة مصادر تلبي مستجدات السوق في حينها, وتراعي حاجات الطلبة وقدراتهم.

ونجاح هذا الأسلوب يحتم على الأساتذة عمل خطة تنفيذية لموضوعات المقرر في بداية كل فصل دراسي وتكليف الطلبة بالتحضير لكل محاضرة, وفي بداية المحاضرة يقوم الأستاذ بتهيئة الموضوع في دقائق, ثم يطلب من كل طالب أن يقدم ما حصل عليه من معلومات, وبعد مشاركة الجميع يقوم الأستاذ بربط المعلومات المقدمة من الطلبة بسياقها المعرفي والمهاري والقيمي ومناقشتها وتصحيح المعلومات التي لا تخدم موضوع المحاضرة, والثناء على جهود الطلبة المتميزين في تحضيرهم.

معنى هذا أيضاً أن الأستاذ نجح في انتزاع المعلومات من أفواه الطلبة وتم ترسيخها في أذهانهم أولاً بأول مما يساهم في فهم الموضوع التالي, وهكذا حتى نهاية المقرر, وأسلوب التميز هذا يستوجب تحديد عدد الطلبة في الفصل بما لا يتجاوز الخمسة والعشرين أو أقل, ويتطلب بيئة مهيأة تهيئة مناسبة, ونصاباً تدريسياً مقبولاً يتيح للأستاذ متابعة المستجدات والتفاعل مع الطلبة ومعرفة مستوى أداء كل واحد منهم على حده.

يلي ذلك تطبيق مؤشرات تميز الأداء, ومن أبرزها درجة رضا المستفيدين وهم الخريجون وأصحاب العمل في السوق وعدد الخريجين الذين تم توظيفهم في السنة الأولى بعد تخرجهم ونسبهم, وأيضاً رضا مقدمي الخدمة من حيث مستوى تأهيل المنفذين ودرجة تميز أدائهم وجودة الخدمات, ومناسبة بيئة الدراسة, ومستويات تقديرات الطلبة التحصيلية في جميع مقررات البرنامج.

أ. د. علي بن سعد آل هزاع القرني

كلية التربية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA