كذبات أمي الثمانية!

بر الوالدين من أعظم العبادات، وقد اقترن بعبادة الله في كثير من الآيات، فطيبة الأب أعلى من القمم، وحنان الأم أكبر من المحيطات، هي العزاء في الحزن، والرّجاء في اليأس، والقوة في الضّعف، «لكن أمي ليس دائمًا تقول الحقيقة» هكذا كتب العقاد. 

تبدأ القصة عند ولادتي، فكنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقر، ولم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا، وإذا وجدنا في يوم من الأيام بعضًا من الأرز لنأكله ويسد جوعنا، كانت أمي تعطيني نصيبها، وبينما كانت تحوّل الأرز من طبقها إلى طبقي كانت تقول: «يا ولدي تناول هذا الأرز، فأنا لست جائعة». وكانت هذه كذبتها الأولى.

وعندما كبرت أنا شيئًا قليلاً كانت أمي تنتهي من شؤون المنزل وتذهب للصيد في نهر صغير بجوار منزلنا، وكان عندها أمل أن تطعمني سمكة قد تساعدني على أن أتغذى وأنمو، وفي مرة من المرات استطاعت بفضل الله أن تصطاد سمكتين، فأسرعت إلى البيت وأعدت الغداء ووضعت السمكتين أمامي، فبدأتُ أتناول السمكة الأولى شيئاً فشيئاً، وكانت أمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك، فاهتز قلبي لذلك ووضعتُ السمكة الأخرى أمامها لتأكلها، فأعادتها أمامي فورًا وقالت: «يا ولدي تناول هذه السمكة أيضًا، ألا تعرف أني لا أحب السمك»، وكانت هذه كذبتها الثانية.

عندما كبرت أنا كان لا بد أن ألتحق بالمدرسة، ولم يكن لدينا مال يكفي لمصروفات الدراسة، ذهبت أمي إلى السوق واتفقت مع موظف بأحد محال الملابس أن تقوم هي بتسويق البضاعة بأن تدور على المنازل وتعرض الملابس على السيدات، وفي ليلة شتاء ممطرة تأخرت أمي في العمل وكنت أنتظرها بالمنزل، فخرجت أبحث عنها ووجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت، فناديتها: «أمي، هيا نعود إلى المنزل فالوقت متأخر والبرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في الصباح». فابتسمت أمي وقالت: «يا ولدي، أنا لست مرهقة». وكانت هذه كذبتها الثالثة.

وفي يوم اختبارات آخر العام بالمدرسة، أصرت أمي على الذهاب معي، ودخلت أنا ووقفت هي تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة، وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان خرجت لها فاحتضنتني بقوة ودفء وبشرتني بالتوفيق من الله تعالى، ووجدت معها كوبًا فيه مشروب كانت قد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي، فشربته من شدة العطش حتى ارتويت، وفجأة نظرت إلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه، فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها «اشربي يا أمي». فردت «يا ولدي اشرب أنت، أنا لست عطشانة». وكانت هذه كذبتها الرابعة.

وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة، وأصبحت مسؤولية البيت تقع عليها وحدها، فأصبحت الحياة أكثر تعقيداً وصرنا نعاني الجوع، وكان عمي رجلاً طيباً وكان يسكن بجانبنا ويرسل لنا ما نسد به جوعنا، وعندما رأى الجيران حالتنا تتدهور من سيئ إلى أسوأ، نصحوا أمي أن تتزوج رجلاً ينفق علينا فهي ما زالت صغيرة، ولكن أمي رفضت الزواج قائلة: «أنا لست بحاجة إلى الحب». وكانت هذه كذبتها الخامسة.

وبعدما انتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة، حصلت على وظيفة جيدة إلى حد ما، واعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمي وتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل، وكانت في ذلك الوقت لم يعد لديها من الصحة ما يعينها على أن تطوف بالمنازل، فكانت تفرش فرشاً في السوق وتبيع الخضروات كل صباح، فلما رفضت أن تترك العمل خصصت لها جزءًا من راتبي، فرفضت أن تأخذه قائلة: «يا ولدي احتفظ بمالك، معي من المال ما يكفيني». وكانت هذه كذبتها السادسة.

وبجانب عملي واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجستير، وبالفعل نجحت وارتفع راتبي، ومنحتني الشركة الألمانية التي أعمل بها الفرصة للعمل بالفرع الرئيسي لها في ألمانيا، فشعرت بسعادة بالغة وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة، وبعدما سافرت وهيأت الظروف، اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للإقامة معي، لكنها لم تحب أن تضايقني وقالت: «يا ولدي أنا مرتاحة هنا ولست معتادة على المعيشة المترفة». وكانت هذه كذبتها السابعة.

كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة، وأصابها مرض السرطان اللعين، وكان يجب أن يكون بجانبها من يمارضها، ولكن ماذا أفعل فبيني وبين أمي الحبيبة بلاد، تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا، فوجدتها طريحة الفراش بعد إجراء العملية، عندما رأتني حاولت أن تبتسم لي ولكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة، فانهمرت الدموع من عيني، ولكن أمي حاولت أن تواسيني وقالت: «لا تبك يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم». وكانت هذه كذبتها الثامنة.

وبعدما قالت لي ذلك، أغلقت عينيها، ولم تفتحهما بعدها أبداً.

إلى كل من ينعم بوجود أمه في حياته، حافظ على هذه النعمة قبل أن تحزن على فقدانها، وإلى كل من فقد أمه الحبيبة تذكر دائماً كم تعبت من أجلك، وادع الله تعالى لها بالرحمة والمغفرة.

أ. د. جمال الدين إبراهيم هريسه

كلية الصيدلة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA