لا بحث علمي حقيقي دون شراكة حقيقية

أثار خبر إطلاق وكالة ناسا قمرًا صناعيًا ليصل إلى أقرب نقطة ممكنة للشمس أوجاعي في الصيف، الأهم كما جاء في الخبر أن الفكرة والتخطيط كان طيلة عشر سنوات تقريبًا في جامعة. إن الربط بين البحث العلمي والتطبيق من أبجديات التطوير والتنمية، ومع ذلك لا نعطيها الاهتمام الفعلي اللازم، وللأسف ما زلنا نذكّر بها وكأننا لا نعلم ولا نشاهد ولا ندري ماذا تفعل الجامعات التي تعمل ليل نهار بهدف تطوير المعرفة علما وتطبيقًا.

لدينا مشكلتان، الأولى متمثلة في القصور المستمر في ربط الجامعات بالجهات المعنية باحتياجات المجتمع، والثانية طبيعة المنتج الوطني بكل ما تعنيه كلمة «الإنتاج» ومدى إيمان المعنيين بهذا الإنتاج بدور البحث العلمي في تعظيمه وتحسينه.

المشكلة الأولى أرى أن الجامعات معنية بها بالدرجة الأولى؛ فالجامعة لابد أن توثق الصلة فعليًا مع المجتمع، فتبدأ بالتعريف بأن الجامعة ما هي إلا بيت خبرة كبير هو الأقرب للمجتمع من أي مكتب أو جهات استشارية خارجية.

هذا التعريف يتطلب عملاً دؤوبًا ونتائج قابلة للقياس بهدف التطوير والمراجعة نحو الأفضل، وهذا يتطلب استراتيجية عمل من كل الأقسام العلمية، وإذا لم نفعّل هذا في السابق، فهل نبقى على هذا الوضع؟ وإذا لم نستطع، فإننا إما أننا على مستوى الأقسام ليس لدينا عمل ولا علم ولا ثقة بتخصصاتنا، أو أننا آثرنا الانتظار لحين يأتي توجيه، ولا أعلم عن أي جودة نتحدث؟

هذا التعريف لا شك أنه سيبقى أجوف إن بقي نظريًا ولم يصاحبه استعداد منظم للعمل، وهذا العمل ليس عملاً فرديًا، بل لابد من دعمه من كافة المستويات الإدارية في الجامعة، لأن الجامعة ببساطة معنية بتسويق منتجها البحثي، وإلا ما الفائدة من الحديث حول خدمة المجتمع؟!

معروف أن المزارع لابد أن يخرج منتجه الزراعي للناس في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، أما المجتمع فلم أجد عبارة أبلغ مما قاله زميل: يفترض بالمريض أن يأتي إلى الطبيب وليس العكس، وهنا نتحدث عن المشكلة الثانية، طبيعة المنتج المحلي بكامله، اجتماعي، صناعي، إلخ.

فإذا قلنا إن المشكلات والاحتياجات التطويرية للمجتمع في الجانب الإنساني تتطلب تدخلاً مباشرًا من الجامعات، فإن الجامعات تزخر بعشرات الآلاف من الدراسات حول القضايا الإشكالية والتنموية التي وقفت وما زالت تقف عليها، ويفترض أن تستفيد الجهات المعنية منها؛ لأنها دراسات علمية تصف وتقترح الحلول عن قرب، فهل يوجد في هذه الجهات وحدات تطوير ومتابعة لهذه الدراسات بدلاً من الاستعانة بجهات استشارية أخرى أو الاكتفاء بالتعاقد مع أستاذ من هنا أو هناك لمدة محدودة؟!

الآن كيف نطور البحث علمًا وتطبيقًا في الوطن وأبحاثه ليست إلا زينة في رفوف المكتبات فقط، وكأن الهدف النشر العلمي؟! بكل تأكيد النشر العلمي مطلب أولي، لكن الخطوات الأخرى التالية هي الأكثر أهمية.

فعندما أبحث مثلاً في البنية التحتية لتطبيقات التقنيات المكانية في الجهات المختلفة التي يفترض أن تتوفر فيها هذه البنية، فإني لا أبحث في ذلك بهدف النشر فقط، بل بهدف معرفة الإشكالات والتحديات عن قرب وتقديم الحلول العلمية العملية، وبذلك أكون أنا أول من تقدم في الفهم والمعرفة.

أما إذا سُلب مني هذا الدور فقامت جهة معنية بالتعاقد مع جهة خارجية، فكيف أعرف وأفهم وأطور؟ وكيف أدرب طلبتي، وكيف أستطيع تحديد مشكلات بحثية وطنية بامتياز؟ وبهذه الصورة البشعة في الحقيقة فإن للمجتمع الحق أن يسأل مستهجنا حول الفائدة من التخصصات الجامعية.

إن الأمر وصل إلى درجة أن بعض أساتذة الجامعات أنفسهم يرى البحث في القضايا المجتمعية أقل شأنا من البحوث الهندسية أو الصحية، حشفًا وسوء كيلة وقصر نظر! أصبحت العلوم الإنسانية مثار تَنَدُّر عند البعض أو الكثير عندما غفلوا عن دور هذه العلوم في فهم المجتمعات وتطويرها وأن الجامعات هي المرجعية الأولى للدراسة والاستشارة والتنوير.

أما الأمر المهم أيضًا في التنمية، فهو التنمية الصناعية، فأين دور البحث المحلي في الصناعات القائمة؟ ماذا تضم هذه المصانع في هذا الجانب؟ لماذا لا تتجه المصانع للجامعات؟ هل يوجد لديها مشكلات ترغب في حلها وخطط تطويرية دورية؟ بالتأكيد لديها، لكن ما مدى استعدادها للتعاون؟!

الواقع يقول - رغم إني لا أستطيع شخصيًا أن أقدم خبرًا أكيدًا حول ذلك - أن معامل معظم هذه المصانع موصدة تجاه الباحثين، لا بل المعلومة محجوبة! الآن كيف يمكن أن يستوعب أستاذ عالم في جامعة في بلد صناعي هذا الوضع عندنا؟!

إن الأمثلة لا يمكن حصرها حول العلاقة الوثيقة بين التطور الصناعي في بلد متقدم والبحث العلمي فيه، ولا يمكن لعاقل أن يضيع وقته لفهم أو حتى تفهم السبب، فهل يمكن أن تنتفض الجامعات لمعالجة هذا الخلل؟

المقصد أنه ورغم الجهود الفردية الواضحة في البحث العلمي إلا أن الحقيقة كما قالها أحد المسؤولين الكبار مرة عندما جاء زائرا لجامعة الملك سعود، ما معناه: لا فائدة أو لا قيمة لبراءات الاختراع دون مكان في الواقع العملي. وأزيد بالقول: لا أظن أن نشر كل أبحاث الجامعات عندنا مجتمعة في أعرق المجلات العلمية سيفيد مجتمعنا.

وقبل الختام لعلنا كلنا نتسائل: لماذا بقي أبرز علمائنا في الخارج؟ إنه لثلاثة أمور رئيسة: أولاً الدعم الضخم للبحث العلمي، وثانيًا أن تلك المجتمعات تتميز بالإنتاج أكثر من الاستهلاك، وثالثًا تؤمن تلك المجتمعات بأن البحث العلمي هو السبيل الوحيد للتطور، وليس مكانه النشر في المجلات العالمية وإنما في الواقع العملي.

في الختام أظن أن المطلوب غرفة طوارئ لوضع استراتيجية عمل محكمة للخروج من هذه الأزمة وبأسرع ما يمكن، والاستفادة من الأساتذة الجدد المتحمسين في قيادة الأقسام الأكاديمية وإعطائهم الصلاحيات اللازمة لخلق وتفعيل مثل هذه المبادرات، وإلا سوف تأخذهم دوامة الروتين إلى أن لا يبقى من حماسهم في آخر العمر سوى كتابة مقالات التحسر.

أ. د. علي معاضه الغامدي

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA