هل المستهلك يعرف قيمة ما يشتري حقاً؟

 

 

تتردد جملة أو فرضية «المستهلك يعرف قيمة ما يشتري» في عدد من المقررات الدراسية في تخصص الاقتصاد، حتى إنها تعتبر من الفرضيات الاقتصادية الأساسية، وتقوم هذه الفرضية على أساس أن المستهلك دائمًا اقتصادي أو يتحلى بـ«الرشد» الاقتصادي وقرارات شرائه مدروسة أو «عقلانية»، ولكن بعض الظروف التي نمر بها في الحياة العملية كمستهلكين تجعلنا نتساءل عن صحة هذه الفرضية!

وقد قررت مؤخراً باعتباري «مستهلك عقلاني» على حد زعم الفرضية، أن أختبر صحة هذه الفرضية بطريقتي البسيطة، فأثناء فترة الاختبارات قررت أن أخبز «كوكيز» بنفسي لسببين الأول لتصفية مزاجي والثاني لحساب ما يكلفه طبق كوكيز الواحد، وفكرت لأي متجر أذهب لشراء مستلزمات خبز الكوكيز بأقل سعر، ولكني لم أعثر على متجر يضمن لي أقل الأسعار لجميع السلع.

من خلال رحلتي للبحث عن السلع بأقل الأسعار لاحظت أن هناك تبايناً واضحاً في الأسعار بين بعض السلع في نفس المتجر، وتباين أيضًا في الأسعار بين المتاجر لنفس السلعة تماما؛ حينها اكتشفت أن أكثر فرضيات الاقتصاد الجزئي شهرة قد تكون غير عملية، حيث إني لم أكن قادرة على تقدير سعر السلعة ولم أستطع الوصول للمتجر الذي يضمن لي أقل سعر لكل مستلزمات خبز الكوكيز.

كما أنني لاحظت أن بعض النكهات تكون بسعر أعلى من نكهات أخرى، ليس لأن تكلفتها أعلى ولكن لتوجهات الذوق العام لها؛ إذ إن ذوق المستهلكين وعاداتهم تؤثر دائمًا على قرارات الشراء من جانب الطلب، وتؤثر أيضًا على الأسعار من جانب العرض! وهذا لم تتطرق له النظرية، وإلقاء اللوم على المنتجين فقط يتناقض مع قانون الطلب والعرض الشهير، فالسعر يعكس أحيانا العادات وتوجه الذوق العام في المجتمع، وهذا ما لم تأخذه النظرية في عين الاعتبار.

كما أن التعقيد وقلة المعلومات الذي يواجهه قراري في الاختيار والشراء لا تقوم النظرية بتفسيره، فقد كان لدي أثناء اختباري للفرضية خيار الذهاب للمتجر الذي يبعد عن منزلي 5 دقائق أو الذهاب للمتجر الذي يبعد أكثر من 10 دقائق، فعامل المسافة حدَّ من خياراتي لنفس السلعة.

وبالتطرق لنظرية البحث الاقتصادية التي تتحدث عن تكلفة البحث، لنفترض أن المتاجر كلها تبعد عن منزلي 20 دقيقة، فكيف تعتقد أن المسافة وتكلفة الفرصة البديلة المرتبطة بين المسافة أو توافر معلومات أكثر يمكن أن تغير سلوكي في البحث؟ وكيف ستغير سلوك التسعير للمحلات؟!

يقوم الاقتصاديون بإنشاء نماذج الهدف منها التوصل لنتيجة لتعميمها وتكون ناتجة عن بعض الافتراضات التي يصفونها باستجابة أو ردة فعل المستهلك «النموذجية»، وسلوكي في هذه الحالة ليس ما يعنيه الاقتصاديون بالسلوك النموذجي، حتى إنه قد يراه البعض سلوكاً غريباً! وحتى بافتراض أن المستهلك نموذجي أو «عقلاني»، هل افتراضات نموذج الطلب والعرض تتناسب مع هذه الفرضية دائمًا؟

في كثير من الحالات، يعطي نموذج العرض والطلب التقليدي نتائج دقيقة، ولكن في بعض الأحيان يكون افتراض «عقلانية المستهلك» غير مناسب، من المهم فهم كيفية تغيير السلوك في حالة اختلال أي افتراض.

في الاقتصاد، يعتمد كل استنتاج نستخلصه من نموذج على الافتراضات المستخدمة لبناء هذا النموذج، عندما ندرس نموذجاً جديداً، نقوم دائمًا بسرد الافتراضات التي تم وضعها والتركيز على كيفية تغير النتائج، وفي حالة إزالة الافتراض فإن فهم العلاقة بين الافتراضات والنتائج هو الخطوة الحاسمة لتطبيق ما نتعلمه من النظرية واستخدامه لفهم ما يحدث في العالم الحقيقي أو العملي.

ويمكن تلخيص التساؤلات التي طرأت علي في رحلتي للتحقق من النظرية بالتالي:

- المشاكل المرتبطة بعدم كفاية المعلومات وعدم اليقين كثيرة وهذا قد يصعب على المستهلكين اتخاذ قرارات عقلانية؛ فعلى ماذا يعتمد المستهلك العقلاني في اتخاذ القرارات؟

- السلوكيات الفردية أو الجماعية جدا معقدة، وهناك العديد من النظريات والدراسات تفسرها بشكل أفضل، لماذا لا يتم تبنيها لبناء نماذج طلب المستهلك بدلاً من افتراض عقلانية الاختيار؟

- العادات والطبائع الاجتماعية قد تفسر الكثير من السلوك الفردي، وبمجرد أخذها بعين الاعتبار ببداية النموذج قد تمكننا للتوصل لنتائج أكثر تطورًا.

- من مشكلات نظرية الاختيار العقلاني هي افتراض أن المستهلك دائمًا راشد أو عقلاني في جميع قراراته، ولكن ماذا إذا تم افتراض العكس ليشمل النموذج جميع القرارات العقلانية وغيرها ليصبح جزءًا من النموذج؟

أحيانًا يتخذ المستهلكون خيارات وقرارات يرون أنها عقلانية ولكن لا تعتبرها النظرية عقلانية، لأنها لا تعتبر الظروف والحالات التي يتخذ فيها المستهلك هذا القرار والتي يكون لها تأثير كبير على ما إذا كانت هذه القرارات عقلانية أم لا. كما تؤثر قيم ومعتقدات المستهلك ومجتمعه على عقلانية قراراته.

في النهاية، لا يقوم المستهلك باتباع الخطوات النظرية للوصول لقراره العقلاني وإنما يقوم باتخاذ قراراته بتأثير ظروفه، وطالما أن القرار المتخذ سيؤدي إلى أفضل نتيجة ممكنة فهذا يعد وصفًا أدق لعقلانية الخيار، فمن وجهة نظري، العقلانية نسبية، حيث يمكن للمستهلكين أن يكونوا عقلانيين وغير عقلانيين في اتخاذ القرارات من وقت لآخر.

هيفاء محمد الظاهري

قسم الاقتصاد

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA