قيمتك على قدر عطائك

حياتك ليس لها قيمة إلا بعزيمتك الصادقة، وبقدر هذه العزيمة يكون عطاؤك الذي يجعلك تعيش حياتك عزيزاً، كريماً، منتجاً، فاعلاً، قائداً، مؤثراً، يدك عليا لا سفلى عالة على غيرك تنتظر عطف الناس عليك، ترمق ببصرك نحو مستقبلك بهدف واضح، وخطى واثقة، تأخذ بالأسباب، متوكلاً على رب الأرباب، تخوض غمار الحياة؛ لأنك تعلم يقيناً أن المطالب العالية لا تأتي بالأمنيات بل بالتضحيات، ورحم الله شوقي إذ يقول: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً.

وأنت – أيها الحبيب -  بهذه العقلية الناضجة، تتجاوز عقلية ذلك الصبي القاصر، الذي آثر أو كاد أن يؤثر حياة الثعلب عالة على الأسد! وهاك القصة: يُحكى أن تاجراً كان كثير المال قليل العيال، له مال كثير، وولد وحيد مدلل كسول، يبدد المال يمنة ويسرة، في وجهه حيناً، وفي غير وجوهه أحياناً.

حار الأب في شأن ابنه، وأراد أن يجعله يتحلى بالمسؤولية، فهو ابنه الوحيد، ولا شك أن كل هذا المال الذي جمعه في سنين عمره ذاهب إليه، وقد عز عليه أن يرى جهد عمره يذهب أدراج الرياح!

فكر ودبّر، ثم اهتدى إلى طريقة ظن أنها الأنجع بإعادة ولده إلى جادة الصواب، فقال محدثاً نفسه: إن أنا أرسلته على رأس قافلة للتجارة، ووضعتُ له من يراقبه ويعاونه، فلا شك أنه سيشعر بذاته، ويعرف قيمة العمل، وقيمة أن يكون الإنسان منتجاً، ويأكل من كدّ يده، وأنه إن شقيَ وتعب في إحضار المال لم يستهن في تبديده!

حدث ابنه بالأمر فراقت له الفكرة، وحزم متاعه، وارتحل على رأس القافلة للتجارة، وما كاد مساء ذاك اليوم يحل حتى كانت القافلة قد قطعت مسافة طويلة، وأصيب الرجال، والدواب بالتعب، فنزلوا للمبيت كما هي عادة القوافل.

ناموا ليلة هانئة هادئة، افترشوا فيها الأرض، والتحفوا السماء، والولد مشدوه لمنظر الطبيعة وليل الصحراء الآخّاذ، وفي الصباح الباكر، وبينما كانت القافلة على وشك المسير، رأى الولد عجباً، رأى أسداً يأتي باب كهف ويضع أرنباً قد اصطاده، ويمضى في سبيله!

بعد قليل خرج من الكهف ثعلب أعمى، أخذ يتحسس طريقه حتى وصل إلى الطريدة فأكلها، ثم عاد إلى الكهف!

قال الولد في نفسه: لقد قسم الله لكل مخلوق رزقه، فعلام يكدّ الناس ويشقون؟! وإن الذي لم ينسَ ثعلباً أعمى، لن ينسى إنساناً مبصراً، وطلب من القافلة أن ترجع أدراجها! استغرب الأب عودة ابنه، وسأله عن السبب. فقال الولد: يا أبتِ ما حملني على الرجوع إلا أني رأيت عجباً! قال الأب: وماذا رأيتَ يا بنيّ، حدثني. قال: رأيت أسداً اصطاد أرنباً، ثم وضعه أمام كهف ثعلب أعمى، يا أبتِ فلمَ الكدُّ والعمل، وكل آتيه رزقه!

ابتسم الأب وقال: يا بنيّ، إن الله يسوق لكل  مخلوق رزقه، ولكني أردتك أسداً مبصراً يعطي، لا ثعلباً أعمى يأخذ! فهم الولد مراد الأب، وعزم على الجد والعمل، وأقسم أن لا يعود سيرته الأولى.

عزيزي، إن قيمة كل واحد منا بما يقدمه لنفسه وللآخرين، واليد العليا خير من اليد السفلى، فكن أنت من يرسم مجد نفسه، لا أن تنتظر أن يرسمه لك الآخرون، ولوكان أقرب المقربين، كن - أيها اللبيب النجيب - عصاميًا، لا عظاميًا تبني مجدك بيديك، ولا تجتر من الأموات أمجاد آبائك.

ومضة: إن الخطر كل الخطر في أن نصغي لأي صوت بداخلنا يدعونا للاستسلام والقعود وقتل الهمة.

فهد عبدالقادر الهتار

خريج  دكتوراه – كلية التربية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA