النظرية التأويلية ومراحل عملية الترجمة

لا يوجد في عصرنا الحالي بلد في العالم لا يهتم بالتواصل الثقافي والحضاري مع البلدان الأخرى، بل وصل الاهتمام في بعض الدول إلى جعل التكنولوجيا وسيلة أساسية لمعالجة هذا الجانب وأصبحت الآلة بواسطة برامج مطورة متخصصة تقوم بجزء يسير من هذا الدور، وأصبح الكل يتطلع إلى امتلاك ما يمكن أن نسميه هنا «الناقل الآلي للثقافات والحضارات الأجنبية».

إلا أن عملية الترجمة لا تتوقف على إيجاد المطابقات اللغوية كما يعتقد البعض، بل هي بالتأكيد أبعد من ذلك، فالترجمة بمعناها الحقيقي تركز على رسالة النص بمجملها وتسعى لنقل المكافئ والمضمون فيها سواء المضمر أو الظاهر منه في النص بشكل عام خصوصاً فيما يتعلق بالجوانب الثقافية والتاريخية والمعرفية والنفسية والمجتمعية، التي تؤثر بشكل كبير على جودة الترجمة ومدى كفاءة المترجم وقدرته على التحكم في هذه العملية.

بعيداً عن الخوض في الجدل القائم في معايير الأمانة في الترجمة، يسعنا الإشارة إلى أن أنصار النظرية اللغوية والتي تتمحور حول الأمانة للنص الأصل وسياقه يرفضون وبشدة ما يجري خلال الترجمة ذات الطابع التأويلي.

أما أنصار النظرية التأويلية فيوظفون جل تركيزهم على «المعنى» متناسين في الوقت ذاته بنية النص الأصل سعياً للحفاظ على البعد اللغوي للغة الهدف، وعليها، ينتقلون من مستوى الكلمات والجمل إلى مستوى المعنى والمقصد، فبعد مرحلة فهم النص وقبل مرحلة إعادة الصياغة، يقوم المترجم بعملية ذهنية ثانية هي مرحلة تحصيل المعنى والمراد.

هذه المرحلة تتطلب من المترجم أن يوظف كافة معارفه ليتمكن بسهولة من نقل الأثر والمعنى المقصود ومراد الكاتب دون أي خيانة لمقاصده، إذن، المترجم التأويلي ينخرط في النص ليتمكن من استخلاص معانيه، معتمداً في ذلك على كفاءته اللغوية ومعرفته الموسوعية في آن واحد.

لذا عليه أن يكون واعياً ومدركاً لتلك المسؤولية العظيمة التي تقع على عاتقه والتي من شأنها أن تعلي من جودة ترجمته بأمانتها تجاه مقاصد الكاتب أو على العكس تماماً فقد تودي به إلى ما لا تحمد عقباه في حال اجتهاده الشخصي في التأويل المبالغ فيه كأن يؤول مقصد ونوايا الكاتب بغير وجه حق أو يلازم مسار الكلمات الواحدة تلو الأخرى بمعزل عن سياقها الذي وردت فيه، فيقدم ترجمة ركيكة لا تتسم بأي طابع لغوي يُنسب للغة الهدف، فلا يجد لها قبولاً لدى الجمهور وربما يؤدي هذا المسار أيضاً إلى خلق ترجمة مبهمة لا تحمل في طياتها أي معنى مترابط أو مفهوم، فيخل بذلك بمصداقيته وأمانته تجاه المعنى المراد.

أخذت النظرية التأويلية في الترجمة ثقلاً معتبراً في عالم الترجمة والمترجمين، وسميت أيضاً «نظرية المعنى» نظراً لتمحورها حول معنى النص والتركيز عليه، ويطلق عليها كذلك «نظرية مدرسة باريس» حيث نشأت آنذاك.

في إطار هذه النظرية نرى أن المترجم يسعى لتقديم ترجمة تتميز بالمصداقية والأمانة مع الإحاطة بجميع الجوانب التي من شأنها أن تصبح معضلات في عملية الترجمة، كما يسعى أيضاً لممارسة التأويل المسموح بعيداً عن الاهتمام بالنسج اللفظي للنص الأصل، مسهلاً بذلك تمكين الجمهور المستهدف من تلقي ذات المعنى والأثر الذي قد تلقاه جمهور النص الأصل.

عملية الترجمة هي عملية معقدة جداً تشمل عدة مناهج ومجالات حيث تحتل فيها الوظائف الدماغية والفكرية مكانة كبيرة جداً في إتمام هذه العملية بنجاح، إضافة إلى مدارك ومعارف المترجم القائم عليها، وليس فقط بتضمنها معرفة المترجم المطلقة بلغتي العمل بل تتضمن كذلك في ثناياها مهام مؤثرة على جودتها، وهي آلية توظيف هذه المعارف وسبل تكييفها والاستفادة التامة منها في خضم سير هذه العملية. 

حينما شرعت دانيكا وماريان في دراسة هذه العملية بدقة لتبني نظرية داعمة لها، تفرعن بعيداً عن نهج ونظريات الترجمة السابقة إلى ما بعد علم النفس وعلم النفس التجريبي، وكذلك علم الأعصاب وغيرها من العلوم الإدراكية والعلمية المختلفة، وتشمل مراحل هذه النظرية التي تهدف إلى تقديم ترجمة متماسكة تحترم المعنى ومراد الكاتب:

- مرحلة الفهم: تتلخص في تأويل النص واستخلاص معناه المراد مع الإحاطة بجميع جوانبه، وهي مرحلة تسمح للمترجم بالانطلاق من المعنى الظاهر أمامه ليغوص في أعماق النص لاستخراج ذلك المعنى المضمر والقابع بين السطور.

- مرحلة تحصيل المعنى والمراد: هي لب النظرية التأويلية حيث يسعى المترجم فيها إلى استخلاص المعنى وتجريده من صيغة اللغوية الأصل لتجنب إشكالية التداخل بين اللغتين أو نقل تراكيب لغة للأخرى.

- مرحلة إعادة الصياغة: مرحلة يُخضِع فيها المترجم المعاني المستخلصة من النص إلى قواعد وأسلوب اللغة الهدف، وهذا بدوره ما يجعلها واضحة ومفهومة لدى المتلقي، حيث يتوجب عليه الابتعاد عن الترجمة التلخيصية والتي تحرم المتلقي من معرفة كافة ما يشير إليه النص الأصل، الأمر نفسه مع الحشو والإطناب والذي بموجبه قد يورد معنى لم يتم ذكره في الأصل، والابتعاد عن كل ما قد يوقعه في إشكالية التداخل بين اللغتين.

هاجر عبدالله القويز

ماجستير دراسات الترجمة

كلية اللغات والترجمة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA