الترجمة وسيلة تواصل واستشراف معرفي للمملكة

 

 

ضمن إطار قانون العلاقات الدولية، يأتي مفهوم «العلاقات الدبلوماسية»، وهي علاقات رسمية تهدف إلى إيجاد صلات ودية بين الشعوب قائمة على الفهم المتبادل، هذا يعني أن العلاقات بين الشعوب لابد أن تكون مبنية على مبدأ سلام فكري يحفظ الهوية الثقافية لكل مجتمع من الاختراق والانتهاك.

والترجمة هي وسيلة أساسية للتواصل الفكري والتعارف والتعايش بين الشعوب بمختلف لغاتهم وحضاراتهم وأديانهم وثقافاتهم، ولا يمكن لأي دولة الاستغناء عنها، وهنا نتحدث عن الترجمة بصفتها وسيلة تواصل واستشراف معرفي تلعب دوراً أساسياً في تحقيق الأمن المجتمعي والسلام الفكري.

جاء قرار «قائد السلام الفكري الملك سلمان بن عبدالعزيز» بإنشاء «مركز التواصل والاستشراف المعرفي» ضمن إطار منهج فكري إسلامي واضح يضمن الأمن والسلامة بشكل عام، ويحمي المجتمع السعودي بشكل خاص من التشويش الخارجي السلبي.

من ضمن أهداف هذا المركز متابعة كل المعلومات الإعلامية والدراسات والبحوث الخارجية المتعلقة بالمملكة وتحليلها من جميع الجوانب والتأكد من صحتها ومدى تأثيرها على المجتمع، والعمل على تصحيح جميع الدعايات المغرضة والمعلومات المغلوطة والموجهة المؤثرة سلباً على صورة الإسلام والبلاد في الخارج، وهنا بالتأكيد يأتي دور هذا المركز وأهميته في الدفاع عن الدين الإسلامي والمملكة العربية السعودية.

الترجمة تقوم بشكل أساسي على فهم المعنى المراد الوارد في النص الأصلي، والذي غالباً لا يتحقق للمترجم إلا بعد معرفة سياق ذلك النص، ولكن الأمر هنا لا يقتصر في فهم المعنى من عدمه على فهم سياق النص الأصلي، بل يتعدى ذلك إلى السياق الأوسع «السياق المكاني» الذي تأتي فيه الترجمة أي البيئة، فالبيئة السعودية تختلف عن البيئة الكندية على سبيل المثال. وتغيير البيئة التي وجد من خلالها نص أو جملة أو حتى كلمة يمكن أن يغير المعنى الأصلي العام لذلك النص أو الجملة أو الكلمة، بل يمكن أيضاً أن يغير مراد الكاتب في نفس النص أو الجملة أو الكلمة حتى وإن كانت الترجمة صحيحة.

هذا في الحقيقة ما تركز عليه بعض مؤسسات النشر والترجمة والبحوث الإعلامية في العالم، وهذا أمر أخطر من الخطأ في نقل معنى النص المترجم، لأن الأخطاء في الترجمة غالباً تكون واضحة للقارئ الجيد والمثقف الملم بالموضوع.

هذه المؤسسات تقوم بترجمة مقالات تصدر في الصحف العربية بشكل عام وتوظف تلك الترجمات في إطار مختلف وفقاً لما يخدم مصالحها وأهدافها الخاصة من خلال وضع تلك الترجمات في سياقات مكانية مختلفة عن سياقها الأصلي.

الغريب في الأمر أن بعض تلك المؤسسات تحاول من خلال هذه الطريقة الخروج من إطار السلام الفكري وتشويه صورة الإسلام والمسلمين والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص عند القارئ الأجنبي، وهذا بلا شك يعتبر من أخطر أنواع التسويد الحضاري dénigrement culturel الذي يمكن أن يحدث بكل سهولة من خلال الترجمة، والذي أشرنا إلى خطورته في بحثنا المنشور باللغة الفرنسية في المجلة المغاربية للغات «العدد 8، سنة 2013، مخبر أبحاث اللسانيات».

كل هذا يتم بمجرد التركيز على انتقاء المقالات التي تحمل معلومات تجذب القارئ الأجنبي من الصحف السعودية وترجمتها بشكل احترافي إلى عدة لغات، ووضعها في سياقات مختلفة تخدم أهدافهم.

بالتأكيد، الطريقة التي تستخدمها تلك المؤسسات من خلال الترجمة فقط في سبيل مغالطة الصورة الحقيقية للإسلام والمملكة العربية السعودية؛ تعتبر تحدياً واضحاً لكل مترجم سعودي، وقد جاءت فكرة إنشاء «مركز التواصل والاستشراف المعرفي» رداً فكرياً على تلك الحملات الدعائية ضد المملكة بشكل ناجح وفعال.

وعلينا كأساتذة متخصصين في دراسات الترجمة أن نوضح هذا الجانب الخفي والخطير للترجمة، فهي سلاح ذو حدين؛ يمكن من خلالها تحقيق السلام الفكري، ويمكن بالمقابل أن تكون سبباً في خلق العنف الفكري بين المجتمعات.

هذه هي الترجمة، إما «ترجمة أمينة» مقيدة بالمعنى العام لرسالة النص ومراد الكاتب أو المتحدث في اللغة المصدر أو «ترجمة غير أمينة» تراعي أهواء شخصية ولا تأخذ في الاعتبار مراد الكاتب أو المتحدث الأصلي، وهذه الأخيرة التي يمكن أن نطلق على المترجم فيها كلمة «خائن»، هي التي تؤثر سلباً على المتلقي.

الترجمة بمفهومها الصحيح هي أمانة وليست خيانة، فهي عبارة عن نقل رسالة يحملها نص مكتوب أو منطوق من خلال سياق محدد من لغة إلى لغة أخرى مع الأخذ في الاعتبار المعنى العام لهذه الرسالة ومراد الكاتب أو المتحدث فيها وإيصاله بنفس الأثر للمتلقي في اللغة الهدف.

إذن، الترجمة تتطلب تركيزاً واحترافية عالية، فكم من عناوين كتب تحمل كلمات ذات معاني ثقافية ضمنية قد تكون إيجابية من حيث الاستخدام في اللغة المصدر ولكنها تأخذ معاني ثقافية ضمنية مغايرة تماماً قد تكون سلبية من حيث الاستخدام في اللغة الهدف.

وكم من عبارات تستخدم للتعبير الإيجابي في لغة ولكنها تأخذ وفقاً لبعض العادات معاني عكسية ومؤثرة سلباً على المتلقي في لغة أخرى، وكم من معانٍ لآيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة تحتوي على كلمات مطابقاتها اللغوية في اللغة الهدف تعطي معاني مغايرة في ديانة أخرى.

د. الحسين محمد آل مهديه 

كلية اللغات والترجمة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA