جامعتنا والحراك البحثي

 

 

في مملكتنا الغالية تقف جامعاتنا صروحًا شامخة من صروح العلم والمعرفة، ومنارات مزدانة بمصابيح الخبرة والتقنية، مضى من عمرها المديد ما ينوف عن قرن من الزمان الحافل بالإسهام الواسع والعطاء الثري في جل مجالات الفكر والتنوير والريادة والمعرفة والعطاء، كان إنشاؤها ضرورة عصرية وحتمية أملتها ظروف عصر تحتدم فيه التغيرات المعلوماتية بشكل متلاحق، وتتفتق فيه الإبداعات والاختراعات على نحو مذهل، ولا يجمل بنا نحن أبناء هذه البلاد التي شرفها الله بخدمة الحرمين الشريفين أن نقف مكتوفي الأيدي أو كمتفرجين عن بعد وكأن الأمر لا يعنينا، كيف لا ونحن أحفاد صناع حضارات سائدة وبناة أمجاد تليدة شرفوا التاريخ وشرفهم بما برعوا فيه من ابتكارات في العلوم الطبيعية، وما أنجزوه من اكتشافات رائدة في الطب، والهندسة، والرياضيات، والبصريات، والكيمياء، والفيزياء، وعلوم الفلك، ناهيك عن العلوم الإنسانية والفكرية والإبداعية.

 

إن إنشاء جامعاتنا الواحدة بعد الأخرى لتنفيذ مهامها المناطة بها في تشجيع ورعاية وتوجيه البحث العلمي لخدمة قضايا التنمية في المملكة جاء في فترة أحست فيها المملكة بما أفاء الله عليها من خيرات وثروات مادية ومعنوية.

 إن الأبحاث العلمية والابتكارات التطويرية هي إحدى أهم الدعائم والركائز لتقدم الشعوب ورقيها، فمحصلة هذه الأبحاث سواء أكانت تطبيقية أم  نظرية تساعد المجتمع بكافة قطاعاته وأطيافه في بناء قاعدة التعليم الواعي والتراكم المعرفي، لما فيه من تحسين لنوعية الحياة وتطوير لأساليبها. ونحن بالطبع نقرأ عن تلك الأرقام المذهلة التي تصرفها الدول والشركات الكبرى والمؤسسات الحكومية في الدول الصناعية على الأبحاث، وهي أرقام تزيد غالبًا عن ميزانيات الكثير من الدول النامية أو السريعة النمو. وعند مقارنة البحث العلمي بين المملكة والبلدان الأخرى فلا بد من التمييز بين الدول المتقدمة والدول النامية، فعلى مستوى الدول النامية نجد أن المملكة من أفضلها من حيث إمكانات البحث العلمي وسبل الدعم والرعاية المتاحة له، فعلى سبيل المثال عند مقارنة الأبحاث المقدمة في المملكة مع تلك المقدمة من الدول النامية أو الدول العربية الأخرى نجد تفوقًا واضحًا في الكم والنوعية، أما إذا أردنا المقارنة مع الدول المتقدمة فإن أمام الباحثين في المملكة الكثير حتى يصبحوا في مستوى المقارنة، حيث إنه في بعض الدول مثل أمريكا وإنجلترا وألمانيا واليابان وغيرها من الدول الصناعية المتقدمة تقوم الشركات بتمويل الغالبية العظمى من الأبحاث المفيدة والضرورية لدفع عجلة العلوم والمعرفة وتحسين نوعية الخدمات والمنتجات.

 

لقد قامت جامعتنا ولا تزال بتشجيع البحث العلمي في رحابها، وقد كان لهذا أثره الواضح في تدعيم المختبرات والمعامل ومراكز الأبحاث وتوفير الأجهزة والمعدات اللازمة لها، بل وتشجيع الأساتذة والباحثين بها على الاستمرار في بحوثهم وتطويرها وتنويع مجالاتها وتحسين مستوياتها والإفادة من نتائجها ومخرجاتها.

 

وإذا كنا الآن نشهد بفضل الله حراكًا بحثيًا بين جنبات جامعاتنا العريقة يتمثل في إحداث الكراسي البحثية وزيارات العلماء وميزانيات جديدة للأبحاث، فإن مثل هذا السؤال قد يفرض نفسه: لماذا يقتصر دعم الأبحاث على جهات محددة مثل الجامعات ووزارة التعليم أو مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ومدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة بينما نلمس تقاعسًا واضحًا وربما عزوفًا تامًا من الشركات الكبيرة وقطاع الصناعة ؟ ولماذا لا نسمع إلا عن النزر اليسير عن مساهمات الشركات الصناعية والموسرين والبنوك ورجال الأعمال في بلادنا في تمويل الأبحاث العلمية والنظرية والتطبيقية والتي ستسهم حتمًا في تطوير الصناعة وتحسينها ورقي المجتمع ورفاهيته؟

 

وإذا كنا ندلف للعقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وفي عصر العولمة وانبثاق عصر المعلوماتية وشبكاتها العنكبوتية والمدن الذكية والذكاء الاصطناعي، وفوق هذا وذاك التوجه لإنجاز وتحقيق رؤية المملكة 2030 الطموحة، فإن البحث والتطوير سيكون حتمًا أهم سماته وأبرز خصائصه، لذا فإننا نتوجه للجامعات ومراكز الأبحاث والجهات الممولة ببعض آراء نابعة من إحساس عميق بالتقدير والعرفان للدور المشرف والمرموق الذي تقوم به في مضمار تشجيع الأبحاث ودعمها ورعايتها، وهذه الآراء يمكن حصرها في العمل على تقصي طبيعة ونوعية الأبحاث التي يمكن دعمها وتوجيهها نحو الوجهة الصحيحة التي تخدم وتلبي احتياجات ومسيرات خطط التنمية في المملكة ورؤيتها في ذات الوقت، وذلك يتأتى من تلمس تلك الأبحاث من الإدارات والجهات المعنية وذات العلاقة والتي يمكن أن تفيد من تلك الأبحاث، كذلك التنسيق والتكامل في إدارات ومتابعة أنشطة الأبحاث العلمية بين مختلف مراكز الأبحاث في الجامعات وبين تلك الجهات الداعمة والممولة من الشركات والمؤسسات الصناعية ورجال الأعمال التي يهمها تلك الأبحاث للإفادة منها وتطبيق ما يمكن تطبيقه من نتائجها بدلا من أن تبقى تلك الأبحاث مُغلَّفة في الملفات وحبيسة في الأدراج، إذ من المعروف أن جهودًا كبيرة وأوقاتًا طويلة وأموالًا طائلة قد صرفت واستثمرت في تلك الأبحاث ولا يمكن أن يكون مآلها ومصيرها إلى الإهمال والإغفال والنسيان في نهاية المطاف.

 

حفظ الله بلادنا العزيزة ووفق راعي نهضتها وقائد مسيرتها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وهدانا وأرشدنا جميعًا لما فيه خير هذا البلد الأمين الخيِّر المعطاء وجعلنا جميعًا ممن يعنيهم قوله تبارك وتعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»َ ‎﴿التوبة: ١٠٥﴾‏.

أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان

كلية الهندسة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA