البحث العلمي متعدد التخصصات

 

في وقتنا الراهن السريع التغير والتطور أصبحت المشكلات والقضايا البحثية أكثر تعقيدا، وفي كثير من المجالات أصبحت تلك القضايا البحثية تتجاوز حدود التخصصات أو المجالات العلمية المحددة؛ مما يجعلها مشاريع بحثية متعددة التخصصات (multidisciplinary) أو (interdisciplinary). هذا النمط المهم جدا من مشروعات البحث العلمي يتطلب التعاون بين خبراء من مختلف المجالات العلمية لصياغة منهج متكامل لحل القضايا البحثية المعقدة التي لا يمكن التعامل معها من خلال تخصص أو مجال علمي موحد. تعمل منهجية الأبحاث متعددة التخصصات على قوة التكامل بين التخصصات والاعتماد على نقاط القوة بينها لإيجاد بيئة غنية بالخبرات لحل مشكلة بحثية معينة. وغالبًا ما يؤدي هذا التكامل إلى إيجاد حلول كبيرة وغير تقليدية لتلك القضايا.

يمكن التمييز بين المصطلحين (multidisciplinary) و (interdisciplinary) في منهجية التكامل والدمج البيني للتخصصات والخبرات الأكاديمية المختلفة. ففي الأول يتعاون المختصون من مجالات علمية مختلفة لحل أو دراسة قضية مشتركة كلٌ من خلال منظور ومنهجية تخصصه أو مجاله لتحقيق هدف مشترك. أما المصطلح الثاني (interdisciplinary) فإن البحث البيني هنا يذهب إلى أبعد من ذلك من خلال ليس فقط الجمع بين المعرفة والأساليب من التخصصات المختلفة، بل يعمل على دمجها أيضًا. تتضمن هذه المنهجية تجميعًا للأفكار البينية حيث تكون الحدود بين التخصصات غير واضحة لإنشاء أطر بحثية أو نظريات علمية جديدة. إن الجوهر المهم هنا في كلا المصطلحين أو غيرهما؛ مما يدل على العمل البحثي البيني أو متعدد التخصصات هو التعاون عبر مجالات وتخصصات علمية مختلفة لتحقيق هدف معين بأكبر فائدة ممكنة.

أصبحت البحوث متعددة التخصصات ذات أهمية متزايدة في عالمنا المعقد والمترابط، وتقدم العديد من المزايا في مواجهة التحديات المعاصرة. فأحد الأسباب الرئيسية لأهميتها هو القدرة على معالجة المشكلات المعقدة التي يصعب على أي تخصص منفرد حلها بشكل مناسب. ومن المزايا الرئيسية للأبحاث متعددة التخصصات قدرتها على تحفيز الابتكار، فمن خلال الجمع بين الخبرات من مختلف التخصصات، فإنه يعزز بيئة مشتركة حيث يمكن للأفكار الجديدة أن تندمج وتتطور. وغالبًا ما يؤدي هذا التآزر إلى حل المشكلات بشكل إبداعي وابتكارات مذهلة قد لا تكون ممكنة ضمن حدود التخصص الواحد. يؤدي دمج المنهجيات ووجهات النظر المتميزة إلى حلول أكثر قوة وابتكارًا لها تطبيقات وتأثيرات في العالم الحقيقي. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الأبحاث متعددة التخصصات على تعزيز التعلم وتبادل المعرفة بين الباحثين. ويشارك الخبراء من مختلف المجالات أساليبهم ورؤاهم وخبراتهم الفريدة، مما يساهم في نسيج غني من المعرفة المشتركة والمتبادلة. لا يفيد هذا النهج المتبادل الباحثين الأفراد في توسيع آفاقهم فحسب، بل يثري أيضًا الفهم الجماعي للتخصصات المعنية. علاوة على ذلك، فإن تنوع المنهجيات والأساليب المجمعة في البحوث متعددة التخصصات يمكن أن يحسن بشكل كبير جودة وموثوقية نتائج البحوث.

هناك أهمية كبيرة وتأثير ملحوظ البحوث متعددة التخصصات في المجتمع وخاصةً مع وجود قضايا بحثية معقدة ومنتجات وخدمات تطلب تخصصات كثيرة. في الغالب أن هذا النوع من البحوث يتناول المشكلات الحقيقية في المجالات التطبيقية؛ مما يجعل النتائج والحلول وثيقة الصلة ومؤثرة في تلك المجالات. كما تعمل الطبيعة التكاملية في المشروعات متعددة التخصصات على تعزيز ثقافة التعاون وتسهيل العقبات الموجودة في الأوساط الأكاديمية والمؤسسات البحثية وبناء ثقافة بحثية أكثر ديناميكية وإنتاجية وقابلة للتكيف مع التطورات الجديدة في مجالات التطبيق. هناك جهات بحثية تفضل وتركز على البحوث متعددة التخصصات من حيث التمويل والموارد إدراكاً لأهميتها في الوصول إلى نتائج جديدة ومؤثرة ودورها البارز في الابتكار الحديث.

تدرك الجامعات والمؤسسات البحثية بشكل متزايد أهمية المشروعات البحوث البينية أو متعددة التخصصات، وتتبنى ذلك في استراتيجيات البحث والتطوير الخاصة بها، وذلك لتعزيز ودعم مثل هذه المبادرات الهامة. فمن الأساليب المتبعة تشجيع البحوث المتعددة التخصصات وإعطاؤها الأولوية في الدعم وتشكيل هياكل تهتم بهذا التوجه مثل المراكز والمجموعات البحثية البينية التي تمكن الباحثين من مختلف الأقسام من العمل معًا في مشاريع معقدة تتطلب نطاقًا واسعًا من الخبرة وتخصصات أكاديمية متنوعة. علاوة على ذلك، ومن أجل تنشئة جيل مستقبلي من الباحثين متعددي التخصصات تعمل بعض الجامعات على منهجة الأعمال البينية من خلال دعم هذا التوجه ببرامج ودرجات أكاديمية بينية تهتم بمشروعات بحثية في مجالات عدة وكذلك تقديم دورات متعددة التخصصات وإتاحة الفرص للطلاب للمشاركة في المشاريع البحثية التي تمتد عبر مجالات التخصصات المختلفة. كما تقوم البنية التحتية للجامعات بدور مهم في تعزيز التفاعل متعدد التخصصات من خلال مساحات ومختبرات تعاونية تجمع الباحثين من مختلف التخصصات لتبادل الأفكار وإجراء المشروعات البحثية البينية.

إن إقامة الشراكات الصناعية والمجتمعية تتطلب من الجامعات دعم البحوث المتعددة التخصصات لحل القضايا التي تواجه تلك القطاعات وتطبيق نتائج الأبحاث في ميدان العالم الحقيقي.

وأخيراً، من خلال القيام بتغييرات هيكلية مع الدعم المناسب وتطوير مناهج معينة وتهيئة بيئات وبنى تحتية مناسبة وتعزيز ثقافة التعاون والتكامل سوف تلعب الجامعات دورًا محوريًا في تطوير البحوث متعددة التخصصات وتقدم حلولا حاسمة في التصدي للتحديات المعقدة والمترابطة التي يواجهها عالمنا المعاصر في شتى المجالات، وتعزز قدرتها على الابتكار وتبادل المعرفة.

أ.د. عبدالرحمن بن مشبب الأحمري

أستاذ الهندسة الصناعية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA