التقويم الذاتي المدرسي بين المهنية والعشوائية
لا يخفى على التربويين بمختلف مستوياتهم أهمية عملية التقويم في تحسين العملية التربوية والتعليمية على حدٍ سواء. وعند الحديث عن التقويم الذاتي في المدارس فإننا نتحدث عن نموذج إشرافي حديث ظهر في الميدان التربوي مع بداية العام الدراسي 1445هـ رغبة في تمكين المدرسة الحديثة في التعرف بذاتها على جوانب القوة والقصور وفرص التحسين من خلال استثمار مواردها المادية والبشرية المتاحة، لتكون منطلقًا للتطوير والتحسين الذاتي المستمر لتلبية احتياجاتها ومعالجة مشكلاتها ورفع مستوى جاهزيتها للتقويم الخارجي وتحقيق التميز واستدامته. ولكن هل المدرسة ومنهجها الدراسي الحالي مستعدة للقيام بهذا المهمة؟، وهل لدى منسوبيها الأهلية والدافعية لتحقيق هذه الأهداف؟ وهل يملك مقوميها الخارجيين الأدوات والخصائص والصلاحيات المناسبة لتشخيص واقعها الحقيقي وتحسينه؟
يفترض بعض التربويون أن نموذج التقويم الذاتي الحديث للمدارس قد تجاوز سلبيات النماذج الإشرافية السابقة التي تم تطبيقها في الميدان التربوي في العقود الماضية كنماذج التفتيش، والصفي، والتشاركي، والتطوري، والمتنوع، وأدرك المخططون والمقررون والممارسون بأن التقويم هو تلك العملية المنهجية التي تستهدف الحكم بكل دقة وموضوعية على مدخلات وعمليات ومخرجات العملية التعليمية وتوجيهها الوجهة الصحيحة من خلال إصلاح نقاط القصور في بيئة مدرسية ملائمة، وممارسون يمتلكون المعرفة بشروطه وأهدافه وإجراءاته. ويرى آخرين أن هذا النموذج ما هي إلا شكل آخر لنموذج الإشراف التربوي المتنوع الذي لم يكتب له الاستمرار والانتشار في العقد الماضي.
ومن أهم الشروط هو معرفة الممارسين بأن التقويم الذاتي هادفًا وليس عشوائيًا، بمعنى أنه ينطلق من أهداف النظام التربوي والتعليمي للدولة ثم أهداف المرحلة الدراسية ثم المنهج ثم المقرر، وتوجيه عملية التقويم نحو تحقيق هذه الأهداف. وهذا لن يتحقق إلا من خلال إبراز هذه الأهداف وتعميمها من قبل أصحاب الصلاحية والتخصص بشكل رسمي مع بداية تطبيق هذا النموذج، واطلاع الممارسين عليها واستيعابها سواء في التقويم الذاتي، أو الخارجي، أو المعلمين، أو الطلاب، وعدم ترك هذه الاهداف حبيسة الأدراج والحواسيب.
كما يرى البعض أهمية التنظيم المنهجي في عملية التقويم الذاتي وهم مصيبون في ذلك من حيث البداية بالتخطيط، ثم التنفيذ، ثم المتابعة، مشتملة جميع عناصر المنظومة التعليمية من مدخلات وعمليات، والعمل على تكاملها مع الأهداف المعرفية والعقلية والحركية للمتعلمين، والتأكد من قدرة المقومين والمعلمين على استخدام أساليب وأدوات تقويم متنوعة بكافة صورها واشكالها، كالاختبارات، والمقاييس، وقوائم الملاحظة والرصد، والمقابلات، والاستفتاءات، والاستبانات والقدرة على تحليلها في جميع مراحل عملية التقويم التشخيصية والمستمرة والختامية ثم اتخاذ قرارات التحسين المناسبة.
كما تبرز أهمية معرفة الممارسين للتقويم الذاتي بنظريات التعلم وتطبيقاتها التربوية وبشكلٍ خاص النظرية البنائية والبنائية الاجتماعية والإنسانية والفروقات بينها وبين النظرية السلوكية بجانب أدوات الذكاء الاصطناعي التعليمي وكيفية توظيفها في عمليات التطوير والتحسين، إضافةً إلى الإلمام بنظريات التعليم وكيفية تطبيق نماذجها التدريسية، والقدرة على إدارة عمليات التقويم تحت مفاهيم التقويم من أجل التعلم، وتقويم التعلم، وتقويم عملية التعلم، كما يجب امتلاكهم المعرفة بأبعاد التفكير وأبعاد التعلم والقدرة على توظيفها في عملية تطوير وتحسين عمليتي التعليم والتعلم داخل المدرسة.
وتُعد الموضوعية من أهم شروط نجاح التقويم الذاتي، بمعنى أن النتائج التي يتم الحصول عليها لا ينبغي أن تتأثر بالعوامل والآراء والأحكام والممارسات الشخصية للمدراء والوكلاء والمعلمين والمقومين أنفسهم بغرض إظهار المدرسة ككيان تربوي وتعليمي لا يحتاج إلى تقويم.
ونضيف لهذه الشروط والإجراءات أهمية وجود الجدية والدافعية لدى فرق التقويم الذاتي لتحقيق الأهداف المطلوبة، وإظهار المدرسة وتشخيصها كما هي دون العبث بمنهجها وظواهره الأساسية من خلال الاجتهاد في تعبئة النماذج والممارسات العشوائية وتقليد الآخرين لغرض إرضاء فريق التقويم الخارجي الزائر الذي يفترض على الجانب الآخر تحليه بالفطنة والذكاء والمهنية والموضوعية عند تشخيص منهج المدرسة ووضع التوصيات كما يراها أعضاء الفريق وليس كما تراها قوالب الجهة المخططة.
وينبغي التذكر دائمًا بأن نجاح وفشل منهج المدرسة يعتمد بشكلٍ رئيس على دقة واتقان عمليات التقويم المطبقة.
محمد حسن البحيري
باحث دكتوراه في المناهج وطرق التدريس