الحذر من «نا» المندسين
الكذب سلوك قبيح له أغراض لا تخفى على الكثيرين، فالكاذب إنما يكذب لجلب منفعة أو لدرء مضرة، وربما يكذب أحياناً لمجرد الكذب.
لكن هناك من يكذب لتحقيق ما يرى أن فيه مصلحة له أو لفئته بإجراء مفسدة على فئة أخرى، فيكيد المكائد وينصب الفخاخ لتحقيق هدفه مرتدياً جلباب الآخر ليسيء له من الداخل، فتراه يسب فئته التي انتحل هويتها ويسيء إليها متحدثاً باسمها وملصقاً بها وبرموزها وثوابتها ألوان التهم والأكاذيب، أو يسيء لها بما يشبه المدح؛ مدعياً الولاء والنصح، وذلك بالمبالغة في إظهار التعصب لها والدفاع المثير للتعصب المضاد؛ مستخدماً ما يسميه أهل اللغة «نا» المتكلمين، فيقول زاعماً: «ديننا»، «مذهبنا»، «دولتنا»، «جماعتنا»، وكلها براء منه، فلا هو يعتنق ذلك الدين أو المذهب، ولا هو ينتمي لنفس الدولة أو الجماعة، بل كذب مضاعف، تزوير للهوية ثم تزييف للحقائق.
الضمير المتصل الذي يسمى «نا المتكلمين» هو الجلباب الذي يرتديه لتحقيق تلك المكائد، فهو مفتاح أقفال العقول والعواطف، حيث يشعر بعض الناس بحرص المتحدث على المصلحة المشتركة بينه وبينهم لأنه يشاركهم نفس الانتماء، وهو سلاح خطير فعال يمكن أن نسميه في هذه الحالة «نا المندسين».
هذا النوع من الكذب المركب يكتسب مصداقية لدى المتلقين وينطلي على فئة كبيرة منهم، لأن المخدوع بتصديق الكذبة الأولى يكون قد فقد خط دفاعه الأول، وهو الحذر من العدو أو الغريب، لذا ما إن يأمن هذا الجانب حتى تسهل خديعته بتمرير أي كذبة أخرى.
لا يكاد يخلو أي مجتمع من مستخدمي هذا السلاح الذي استخدمه المنافقون الأولون في صدر الإسلام ومن قبلهم، ولا يزال يستخدمه الكائدون والماكرون المندسون في كل زمان ومكان.
وفي عصرنا الحاضر ومع تطور وسائل الإعلام وكثرة منصاته أصبح من السهل لكل إنسان أن يتحدث إلى الآلاف وحتى الملايين من البشر بشكل مباشر ودون عوائق، فكثر استخدام الأعداء لـ«نا المندسين» أثناء التواصل المباشر مع عامة الناس، وخُدع بها الكثيرون منهم.
من صور ذلك ما نراه اليوم من أسماء وهمية تملأ وسائل التواصل الاجتماعي تنتحل ديننا وهويتنا الوطنية والاجتماعية لتهز أركان الدين والوطن والمجتمع من الداخل، ولكن بمجرد معرفة هذه الحيلة القديمة المتجددة واستشعار وجودها يكون الإنسان أكثر حذراً منها، وبالتالي أكثر تحصيناً من الوقوع في شراكها.
نايف بن حمود العتيبي
كلية العلوم