أهمية الذكاء الثقافي لدى المغتربين
يشهد عالم اليوم تغيرات جذرية في مختلف المجالات الحياتية، وكان من نتائج تلك التغيرات اضطرار عدد من الأفراد لترك مناطقهم ومجتمعاتهم والانتقال إلى مناطق ومجتمعات أخرى، إما للعمل أو للدراسة.
ويضطر هؤلاء «المغتربون» أن يعيشوا في ثقافة وبيئة جديدة مختلفة عن ثقافتهم وبيئتهم التي نشأوا فيها، مما يحتم عليهم ضرورة التكيف والتأقلم مع متطلبات البيئة الجديدة ومقتضياتها الثقافية والاجتماعية.
وقد أدت تلك الهجرات المتزايدة إلى تقارب وتفاعل مجموعة من الجنسيات والثقافات التي كانت قبل سنوات قليلة متباعدة، واجتمعت في البلد المستضيف، فأدى ذلك إلى رقي حضاري وانسجام ثقافي من جانب، وإلى تنافر ثقافي واجتماعي من جانب آخر.
في المجتمع السعودي على سبيل المثال يلاحظ أن كثيراً من المغتربين قد لا ينجحون في التكيّف مع الثقافة السعودية بمختلف أبعادها ومكوناتها، أو مع الثقافات المختلفة المتواجدة على أرض المملكة، وخاصة الذين لم يتعودوا على التفاعل مع أفراد من مختلف الثقافات.
من هنا تظهر فكرة «الذكاء الثقافي» لتفرض نفسها بقوة ولتشير إلى الطريقة التي يجب أن يفكر بها الفرد أو يمارسها للتكيّف مع ثقافات غير ثقافته ومعتقدات غير معتقده، وهو مفهوم جديد ظهر نتيجة التقارب الثقافي، والحاجة الملحة للحصول على الانسجام والتناغم الثقافي.
يشير مصطلح «الذكاء الثقافي» إلى قدرة الفرد على إقامة علاقات تتسم بالكفاءة في بيئة متعددة الثقافات، ويعد توفر مثل هذا الذكاء ضرورياً في مجتمع متعدد الثقافات والجنسيات مثل المجتمع السعودي، وخاصة مدينة الرياض التي تحتضن أكثر من 5 ملايين نسمة متعددي اللغات والثقافات.
لا شك أن الأجنبي الذي يتمتع بقدرات عالية من الذكاء الثقافي أكثر قدرة على التكيّف مع المجتمع السعودي وثقافات الآخرين من نظيره الذي يعاني من تدنٍ في مستوى ذكائه الثقافي؛ فالذكاء الثقافي يعزز القدرة على التأقلم مع الآخرين، وإدراك الفوارق والخلافات والقواسم المشتركة في البيئة وفهم رموزها وكيفية تأثير تلك الرموز على الأحداث والأشياء والأفراد.
إن عدم فهم رموز الثقافات المختلفة ودلالاتها الاجتماعية والثقافية يمكن أن يؤثر في سيكولوجية الفرد ويكون سبباً في شعوره بحالة من الاغتراب في المجتمع، والنفور من الثقافات الأخرى، فقد نجد صومالياً أو يمنياً مثلاً يلبس لباساً يشبه ألبسة النساء في بعض المناطق الأفريقية، فإذا شاهده أو قابله مغترب أفريقي لم يتعود رؤية رجال يلبسون مثل هذه الألبسة، فقد يستغرب وقد يؤدي به ذلك الاستغراب إلى نوع من السخرية والاستهزاء بثقافات الآخرين، مما يمكن أن يحدث تنافراً وكراهية بينه وبين الآخر.
في مثل هذه الحالات يعد الذكاء الثقافي الاستراتيجية الكفيلة لمساعدة الأجنبي على التكيّف مع الثقافات المختلفة في البيئة السعودية، فهو بدوره يحول دون حدوث التنافر والكراهية بين الأفراد.
بالمناسبة، الذكاء الثقافي لا يعني القدرة على فهم الثقافات المختلفة وحسب، بل يتعدى ذلك ليشمل فهم معتقدات الأفراد وقيمهم ومواقفهم وسلوكياتهم، والقدرة على تقبلهم واحترامهم وحسن التعايش معهم،
ويلعب دوراً كبيرا في اكتساب القدرات اللازمة للتكيّف والتفاعل مع أفراد من بيئات مختلفة والانفتاح على العالم الخارجي.
هذه الأهمية التي يتمتع بها هذا المفهوم الجديد هي التي جعلت مؤخرًا بعض الشركات العالمية تقوم بقياس مستوى «الذكاء الثقافي» لبعض موظفيها قبل توظيفهم، لضمان استمرارية التناغم الثقافي وإضفاء روح التعايش السلمي إضافة لرفع مستوى الإنتاجية.
إذا كانت الشركات العالمية تقوم بقياس وتعزيز «الذكاء الثقافي» لدى موظفيها، فلا شك أن الجامعات أولى بذلك، لأن الجامعة مؤسسة تربوية تهدف إلى بناء إنسان متوازن في جميع جوانبه الشخصية والنفسية والاجتماعية، وهذا التوازن الانفعالي والشخصي والاجتماعي يعتمد بشكل كبير على قدرات الفرد على التعايش مع الثقافات والأديان والمعتقدات المختلفة.
وأخيراً أدعو المهتمين بتنمية المهارات الطلابية وكفاءاتهم الذاتية والمشرفين على الأنشطة الطلابية بجامعة الملك سعود وغيرها من الجامعات السعودية والمنظمات الاجتماعية، لتضمين الذكاء الثقافي ضمن دوراتهم وفعالياتهم وبرامجهم التدريبية، لمساعدة الطلاب على أن يكونوا أكثر تفهمًا وتقبلاً لثقافات الآخرين.
محمد بشير سيسي
طالب في كلية التربية