العلاقات الاجتماعية كالعلاقات الأكاديمية فيها الحسن وفيها الجيد، فيها الضحل وفيها القبيح، لكن في إطار التوسع والبُعد الجغرافي يظل الفرد سفيراً ومفوضاً لأسرته ثم لمدينته، لبلدته، لإقليمه، لقارته، وهكذا دواليك، ثم من منظور جامعي سيكون لتخصصه ولقسمه وكليته وجامعته، وضمن هذا الإطار تدور الدوائر، بين المأمول وبين المعاش المنظور، بين الولاء والبراء!
الطالب أياً كان وممن كان وأينما كان سيظل حجر الزاوية في العملية التعليمية، فاليوم طالب وغداً واهب، اليوم مُتلقي وغدًا مُعطي، اليوم يتعلم وغداً يُعلّم، اليوم يضع الخطوط العريضة لمستقبله فيحتك بمن هم حوله وعلى رأسهم المدرسون والمحاضرون والمسؤولون، والذين يقع على عاتقهم مسؤولية الجيل الحالي والقادم، فهم من يغرس شجرة المعرفة، وما على الطالب إلا الاهتمام بها ورعايتها وتنميتها وتقليمها لجعلها جميلة وبصورة مقبولة مفهومة سلسة سهلة النقل والتدوين.
وهنا يقع على عاتق زارعي أشجار المعرفة الاهتمام بالنوع وليس بالكم، بالدقة ليس بالشكل المظهري ولا بتقليب الشرائح وشخبطة الطباشير والأقلام ولا الملازم والكتب، العلم إحساس منقول وأفكار تنتقل، ومهارات تُمارس وفنيات تُكتسب، فما أعُطي بالسهل ذهب أيضاً سهلاً، وما لم يبذل الجهد الصحيح ذو التوجه الدقيق العملي لن تجد القبول الحسن، والشجرة التي لا تتلقى اهتماماً لا تُعمر طويلاً البتة.
لم يعد الطالب اليوم كما كان في السابق، بات يعرف من يبذل جُهداً ومن يمضي وقتاً، من يستغل وضعه ومن يسعى للبذل ومن يهلك الوقت، ومن يفكر عن أفضل الطرق لإيصال المعلومة، ومن يستعين بالتلقين طيلة حياته، من يذلل الصعاب ومن يخلق العراقيل، من يقدس مهنته ومن يبحث وراء مصالحه ومشاريعه.
تقليم الشجرة تجديد للعلم، والاستعانة بالطرق الحديثة تحديث، وبلورة العلم ابتكار، وجعل الطالب في موجة بحث تميز واقتدار، لجعله يجدف في المحيطات والبحار، فلم تعد الطرق التقليدية مناسبة لهذا العصر الجبار، لقد أصبح التقصي وترتيب المعلومة بشكل جديد وفي إطار مميز ومختصر هي الطريقة المثلى للاستقرار، فالبحث للطالب اليوم حياة وإكبار، والفضول أصبح سلوكاً للاستبصار، وتعدد الآراء منهجاً للإظهار، والاستنباط مهارة بحاجة إلى صقل وجدارة للاستمرار.
كلما كانت المادة مُبسطة ومفيدة وتحاكي الواقع وترتبط به كانت مفهومة ومشوقة ومقبولة وما دونها مجرد تكديس وقتي للأوراق وتعقيد للمفاهيم وتلغيم أزلي للعقول.
وهنا تكمن أهمية المدرس والمحاضر والمدرب في كيفية جعل الطالب مجتهداً متميزاً، فهو الملهم الأول، وبقدرته تغيير قناعاته وتحفيز تفاعلاته تماشياً مع قدراته وتذليل الجمود من أمامه، وتعريفه بمكامن القدرة والقوة لديه لتنميتها، وتحسسه لأماكن الضعف للتغلب عليها، بكل يسر وسهولة تراعي الظروف والمواقف، والأعمار والأجناس، فليس استعراض لخبرات تراكمت عبر سنوات وسنوات أو إحصاء للهفوات وتصيد للعثرات وتتبع للزلات، وتعقب للحالات، وتأجيج النفوس وقت الأزمات.
سلاحه دوماً وأبداً التحفيز فهو السفير والقدوة، لا يجعل مكاناً للمقارنة والمقارعة فهي عدوة النجاح والتميز، فلكل فرد أسلوب وتفكير وشخصية وسلوك تميزه عن غيره، ولكل طالب مهارات وقدرات تختلف عن الآخر وإن اتفقت في بعضها، كما تختلف أيضاً أنماط التفكير فقد يكون ذا تفكير ناقد، أو إبداعي أو موضوعي أو إيجابي وآخر واقعي.
كما أن هناك أنواعاً للشخصيات التي يتمتع بها الأفراد؛ فإما أن تكون اجتماعية أو نرجسية أو انطوائية أو عصبية وأخرى حساسة، وهنا يتمثل السفير الماهر في ترويض الشخصية الـمُحببة والمقبولة لبناء هذا الجيل، والذي قد تكون خليطة من تلك الشخصيات لتتناسب حسب الموقف والظرف.
في المقابل يتصف السفير الـمُحنك أيضاً بأنه موضوعي صبور غير متحيز، راغب محب يوزع الفرص المعنوية والمادية بعدالة، متحمس متجاوب متواضع، يراعي مشاعر وأحاسيس الآخرين، مانح للثقة والاحترام والحرية والتعبير، متفاعل مرن يبسط المعقد ويثبت البسيط، في سبيل خلق جيل قوي متسلح بالعلم الذي بمقدوره أن يواجه به معترك الحياة المستقبلية العلمية والعملية والمجتمعية وسينقله لمن بعده من الأجيال، في سبيل إيجاد جيل خالٍ من التعقيدات والأمراض النفسية المزمنة، منفتح متنور نافع يقبل الرأي والرأي الآخر، قابل للتحديث والتجديد بما يتلاءم مع المرحلة والعصر، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويواكب التطورات التعليمية والعلمية، ولاؤه وحبه وعشقه لوطنه، مغروس في اعماقه.
الطالب والمحاضر هما السفيران وهما المفوضان، هما الحاضر والمستقبل، هم بناة الوطن الحقيقيون، وهم درعه الميمون، هم سفراء لبلدانهم وهم الممثلون الفعليون لأوطانهم، هم المهابة والتوقير، هم بيارق ذلك البلد ونبراس العلم بين البذل والعطاء، بين الجد والاجتهاد، وعلى الطالب المفوض بذل كافة الجهود في سبيل تحقيق الغايات التي من أجلها قطع المسافات والقفار، وسهر الليالي الطوال.
وعلى المحاضر تذليل الصعاب في سبيل وصول الطالب لبرّ الأمان، فما أجمل أن تترك سيرة حسنة، ومآثر طيبة، وسلوكيات منك متوارثة، فترقيتك الحقيقية في الدنيا هي رفعتك عند طلابك وتقديرهم لك، فإن الله لا يضيع عمل عامل، ولا محاضرة محاضر ولا تدريب مدرب ولا يخيب أمل آمل ولا طالب نافع، والأهم من ذلك كله حسنات جاريات تلقى بها الله عزوجل لترتقي حقاً في جنات الخلد.
فيصل أحمد الشميري
طالب دكتوراه – كلية علوم الأغذية والزراعة
Add new comment