يحدث أن تُرغم على اختبار حياة جديدة موازية للحياة الطبيعية التي كنتَ تحياها، لكنها حياة مغرقة في البياض، البياض الذي يَشِي بالنقص لا الاكتمال!
حدث هذا عندما أصيب طفلي بمرض مفاجئ اضطرنا إلى الإقامة عدة أيام في المستشفى الجامعي ومعايشة واقع جديد كلياً، تتسارع أحداثه وتتشابه بما لا يجعلك تتمكن من الاستيعاب السريع لما يجري، ثم تختبر نمط حياة لم تعتدها؛ إذ تتحول إلى رقم «مريض 1/1» غرفة «1ب» وتبدأ ذاكرتك تحفظ الأرقام، في جناح «11» المخصص للأطفال تنام على سرير للتو نهض منه مريض سابق، وتشترك مع ثلاثة لم ترهم من قبل في غرفة نوم واحدة لعدة أيام، تفصلكم أقمشة لا تقي من هواء أو صوت أو همس، تتنفسون القلق والوحشة والخوف من المجهول!
تظل تسهر ليلك منتبهًا لأنين الأطفال وصراخهم، وحوقلة الأمهات ودعائهنّ، ثم تبتدئ يومك الخامسة فجراً في غرفة بيضاء باردة رطبة، تمتص دماء طفلك! وتعلك بكاءه وصراخه ببرود، في روتين يومي تقوم به الممرضات بطريقة آلية جدًا! حتى إذا ما دقّت الساعة الثامنة صباحاً فُزّع عنك، وقفزتَ تبحث عن الطبيب، تتحس صوته ووجوده ليلقي عليك قراءاته الصباحية ونتائج التحاليل، ثم يرشدك إلى الخطة العلاجية التي تناسب وضعك الحالي، كل ما مر بك تحتمله ما عدا انتظارك للقاء هذا الطبيب، تستمع لصوت دقات قلبك أعلى من صوته وهو يتحدث.
الذي أذكره وما زال مؤثراً في نفسي ونفس كل مريض وذوي المريض في خضمّ كل تلك الأحداث هو أسلوب الطبيب وطريقة تعامله مع المرضى، الكاريزما التي يظهر بها، البياض الذي يرتديه على روحه قبل جسده، أسلوب تعامله، عبوس وجهه أو انفراج أساريره، مرحه وهدوءه، ردوده المقتضبة والغامضة والمتشائمة، أو ردوده المليئة بكلمات لطيفة مسهبة تهدئ من روعك وتشبع فضولك القَلِق المتسائل دوماً!
إن مهنة الطب مهنة عظيمة جدًا، وإنسانية جدًا «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً»، وإن الطبيب الذي يجمع بين إخلاصه في مهنته وتطبيب الناس وصبره على الجهد البدني والنفسي الذي يعايشه وملاقاة المرضى وذويهم بوجهٍ حسن؛ قد جمع الحسنيين، وحسبه الدعوات المرتفعة إلى السماء والسمعة الحسنة في الأرض.
ولو سألتني كيف جرى الأمر معكم؟ لأجبت؛ إن بعضهم قد أزاح من عاتقنا نصف الهمّ والخوف والقلق الذي شعرنا به إبّان معرفتنا بالأمر؛ بإنسانيته المتدفقة وأسلوبه اللطيف في عرض الحالة وشرحها، ومن ثَمَّ تفهمه وصبره على سيل الأسئلة التي أغرقناه بها، ومتابعته المستمرة وسؤاله وحرصه.
وإنّ آخر قد زاد في اتساع رقعة المصيبة، وأضاف همّ ملاقاته إلى همّ ما نعايشه؛ بجفائه وعبوس وجهه وتجهمه، وتوقعاته المتشائمة وغير المبالية بحالة المريض النفسية الذي يرقب ويفسّر كل كلمة يتفوه بها الطبيب، وبعضهم يرى أن ليس عليه إطلاع المريض على تطورات الحالة بدقة إنما يكتفي بإشارات لا تساعد في فهم المريض لحالته الصحية ولا تطوراتها، رغم أهمية ذلك لاستقراره النفسي بعيداً عن التفاؤل الخادع أو التشاؤم غير المبرر!
ولو علم الأطباء أن لاختيارهم الكلمات التي يلقونها على مسامع المريض الأثر الكبير في دعم المريض وتحسين حالته الصحية، لتفننوا في تخيّر الكلمات التي تداوي وتُسهم في الشفاء قبل العلاج.
وبعد شهرين من اختبار واقع حياة المستشفى، فإنني أُكبر في كل طبيب جعل همه تقديم الرعاية الصحية بكل إخلاص وتفانٍ، وأنفق من وقته وجهده في طمأنة المرضى ومراعاة أحوالهم النفسية، وإن على المرضى وذويهم مراعاة الجهود الكبيرة والعظيمة الذي يبذلها الأطباء، والضغوط التي يواجهونها في سبيل حياة أفضل لك وللآخرين.
إنهم –كما رأيتُ- يُنفقون أكثر من نصف يومهم لمداواة المرضى في المستشفى والتنقل بين الأجنحة وغرف الطوارئ ومتابعة أحوالهم خارجه، وهم إضافة إلى ذلك أناس لهم حياتهم الخاصة التي يُكابدون فيها ما يُكابدون.
وإني في هذه المساحة النصيّة أزجي من الشكر أجزله وأوفره لكل طبيب ساندنا في محنتنا وكان خير عون لنا، وقدم لنا كل ما يستطيع تقديمه، وأجاب عن استفساراتنا وأسئلتنا، فله وافر الشكر والعرفان والدعاء، وفق الله كل إنسان جعل من مهنة الطب العظيمة مهنة له، وأجهد جسده لإصلاح أجساد الآخرين.
ومضة: «الرجل العظيم تظهر عظمته في الطريقة التي يعامل بها البسطاء» - توماس كارليل
مُنى التميمي
باحثة دكتوراه في الأدب والنقد - جامعة الملك سعود
Add new comment