أهمية الإحصاء بين العلوم الإنسانية والطبيعية «2ـ2»

لو افترضنا أن ثمة طريقة معينة «x» لتعلّم لغة أجنبية تمكِّن متعلمَها من أن يتحدثها بطلاقة في وقت قصير، ثم أردنا اختبار هذه الفرضيّة، سنجد أنفسنا أمام متغيرات هائلة ومتداخلة ابتداءً من المحتوى اللّغوي أثناء التعلم، وخلفية المتعلّم للغة، وأسلوب التعلم، ومستوى قدراته الذهنية وغيرها.

فوق ذلك والأهم، لا يمكن إطلاقاً تصميم مقياس ثابت أو على الأقل دقيق لقياس مستوى الطلاقة اللغوية للمتعلم، بمعنى لا يمكن لنا أن نتوصل إلى علاقة حتمية بأن طريقة تَعَلُّم ما «السبب» تقود متعلمي اللغة الثانية للتحدث بطلاقة تامة «النتيجة»، وبالتالي فالعلاقة بين السبب والنتيجة هنا تكون احتمالية وليست حتمية، أي إن اختبار الفرضية هو جزء من محاولة واسعة من الدراسات والأبحاث للاقتراب من معرفة الحقيقة، فهي عرضة للتغيير والنقد من وقت لآخر.

كما أن الباحث جزء لا يتجزأ من موضوع البحث، بمعنى أن ميوله الشخصية وتوجهاته ورغباته بما في ذلك مستواه العلمي ستتدخل في تصميم التجربة، وكذلك في طريقة تصميم المقياس واختيار مفرداته ومستوى صعوبتها، ويتعدى ذلك أيضاً إلى تفسير نتائج الدراسة.

لذا فإن الباحث في العلوم الإنسانية لا يُمكن أن يكون محايداً على غرار العلوم الطبيعية التي يمكن فصل الذات فيها عن الظاهرة، فمثال غليان الماء المُشار إليه سابقاً، نجد فيه أن جزيئات الماء وذراته ليس لها مشاعر ولا تتأثر بأحاسيس الباحث وتحيزاته الذاتية وانفعالاته، وهذا ما يجعل الباحث في العلوم الطبيعية يقف خارج الظاهرة بشكل حيادي، بمعنى أن تصميم التجربة وتفسير نتائجها يكون مستقلاً عن تدخلات تحيزاته الذاتية وتوجهاته الشخصية.

بعد قراءة واستيعاب خصائص كل جانب من العلوم، قد لا يزال القارئ يتساءل: أين يكمن دور وأهمية التحليل الإحصائي عند دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية؟ 

لتوضيح ذلك بطريقة مبسَّطة، دعنا نتناول مرة أخرى مثال طريقة التعلم للغة والمشار إليه سابقاً؛ لو أخذ باحثٌ عينةً من الطلاب، ينتمون لنفس المدرسة والصف الدراسي، وقام بتوزيعهم إلى مجموعتين؛ ثم أجرى تجربة معملية عليهم، فأخضع المجموعة الأولى لطريقة التعلم «x» والتي افترضنا أنها تساعد متعلمي اللغة الثّانية على التحدث بطلاقة وعفوية، بينما المجموعة الثانية خضعت لطريقة التعلم التي عادة ما تُستخدم في الفصول الدراسيّة.

وبعد الانتهاء من مرحلة التعلم أثناء التجربة، خضعت كلتا المجموعتين لاختبار يقيس مستوى الطلاقة، وبناءً على النتائج تم حساب المتوسط لكلتيهما، حيث تبيَّن أن متوسط نتائج المجموعة الأولى التي تعرضت لطريقة التعلم «x» أكبر من متوسط نتائج المجموعة الأخرى؛ فهل نستطيع هنا استنتاج أن السبب الوحيد في اختلاف المتوسط بين المجموعتين ناتج عن اختلاف طريقة التعلم؟

ولو افترضنا ذلك، هل يمكننا تعميم نتيجة البحث على جميع الطلاب؟ أم أن الفرق بين المتوسطين ناتج عن عوامل أخرى؟ ولو افترضنا أيضاً أن الباحث حاول ضبط أكبر قدر ممكن من العوامل والمتغيرات التي قد تؤثر على نتائج الدراسة كاختلاف القدرات الذهنية والجنس وتوقيت التعلم ونحوها، هل سيتمكن من ضبط جميع العوامل بدرجة 100% أو قريباً منها وبدقة عالية؟!

في الحقيقة لا يمكن ضبط جميع المتغيرات بدقة عالية في بحوث العلوم الإنسانية، بل ثمَّ تباين ناتج من عوامل غامضة، نتيجة لغياب الإدراك الحسي المباشر للمتغيرات وتداخلها فيما بينها، وهذا النوع من التباين يسمى «التباين غير المنتظم» ويظهر عندما يتعرض شخص لاختبار ما في وقتين مختلفين خلال اليوم، ثم تكون نتيجة الاختبار مختلفة في كلتا الفترتين.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن الاستنتاج بأفضلية طريقة التعلم «x» إلا بعد إخضاع النتائج للتحليل الاستدلالي من خلال أحد الاختبارات الإحصائية، ودور هذا التحليل هو معرفة حجم التباين بين المجموعتين، وتمييز التباين المنتظم الناتج من المتغيرات التي تم ضبطها في التجربة، عن التباين غير المنتظم، والمقارنة بينهما إحصائياً.

على الباحث أن يقوم أولاً بتحديد قيمة معينة تسمى مستوى الدلالة أو المستوى المعنوي كدرجة فاصلة لقبول أو رفض الفرضية، وعادة ما يكون هذا المستوى يساوي «0,05»، أي أن مستوى الشك في نتائج الدراسة أو احتمال الوقوع في الخطأ يكون 5% والثقة في صحة النتائج هي 95%، بناءً على ما اتفق عليه علماء الإحصاء، لكن في بعض مواضيع الأبحاث، قد يضطر الباحث لتقليل مستوى الشك إلى 1% كالتجارب البحثية في مجال الصيدلة. فيتم هنا قبول أو رفض فرضية الدراسة من خلال مقارنة القيمة المحتسبة من التحليل الإحصائي والتي تسمى القيمة الاحتمالية مع مستوى الدلالة «0,05»، فإذا كانت القيمة الناتجة من التحليل الإحصائي هي «0,04» والتي تعتبر أقل من قيمة الدلالة «0.05» فهذا يعني أن هناك فرقاً إحصائياً معتبراً بين المجموعتين، وبالتالي نستطيع القول إن هناك دليلاً كافياً لدعم فرضية الدراسة، أي أن طريقة التعلم «x» تساعد متعلمي اللغة الثانية على التحدث بطلاقة.

ومعنى القيمة المحتسبة «0,04» هو أننا لو أعدنا هذه التجربة 100 مرة، فإن احتمالية الحصول على النتيجة نفسها هي 96 مرة، واحتمالية نسبة الخطأ في الحصول على نتيجة مختلفة هي أربع مرات.

أما لو كانت القيمة المحتسبة من التحليل الإحصائي هي «0.07» ففي هذه الحالة، تكون القيمة المحتسبة أكبر من «0.05»، وهذا يعني أن الفرق بين المجموعتين غير معتبر إحصائياً، وبالتالي نستنتج عدم توفر دليل كافٍ يدعم صحة الفرضية، ومن ثم لا يمكن لنا أن نعمم نتيجة البحث على جميع متعلمي اللغة.

أ. سامي سليمان السلمي 

محاضر بكلية اللغات والترجمة

طالب دكتوراه في جامعة بريستول البريطانية

0
No votes yet

Add new comment

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA