تُعد الأقسام الأكاديمية في الجامعات العريقة وفي العرف الأكاديمي قاعدة رئيسة يعتمد عليها في صناعة القرارات ذات العلاقة بمجالها واتخاذها وتوجيهها, وتتوقف سمعة الجامعات على جودة أداء أعضاء هيئة التدريس والموظفين والطلبة فيها, ودرجة مشاركتهم في إنجاز مهام أقسامهم وتفاعلهم مع مطالب المجتمع, وتلبية حاجات سوق العمل المتجددة.
ولعل المعايش للأقسام الأكاديمية والمتفحص لأدائها يجد أن واقع كثير منها لا يرقى إلى تحقيق ما يتوقع منها في ضوء المستجدات العلمية والتقنية المتسارعة في السوق, إذ أضحت التنافسية بين الجامعات ممثلة في درجة تميز أقسامها سلاحاً يُحكَم به على مدى الحاجة إلى استمرار الجامعة ذات العلاقة في مجال رسالتها من عدمه فيما يتعلق بقسم بعينه أو أكثر, وهذا يتطلب تميزاً نوعياً في اختيار المدخلات «بشرية ومادية وبيئية» ومن ثم حتمية تميز الأداء أو ما يطلق عليه «العمليات» للوصول إلى تأهيل مميز للمخرجات البشرية.
وربما يعود قصور الأداء في الأقسام الأكاديمية إلى عدة عوامل، أبرزها عدم منحها صلاحيات تمكنها من مواجهة ما يستجد في حينه, وعدم وجود دعم مادي ومعنوي يدفعها إلى تحسين مستوى أدائها الأكاديمي والإداري, وربما تهميش دورها بحجة اختصار دورة اتخاذ القرار وتعجيله, وربما يعمد بعض العمداء إلى اختيار رؤساء أقسام يتفقون معهم في الرأي ويسلمون بما يرونه دون نقاش حر يولد تبادل الأفكار وتنميتها وصولاً إلى التحسين المستمر.
وقد نتج عن ذلك عدم رغبة أغلب الكفاءات ذات الخبرات في تولي رئاسة الأقسام أو تغييبها، وبالتالي يُدفع بمَن لا يملك مهارات علمية وفنية وخبرات أكاديمية إلى رئاستها, وربما أدى هذا إلى عدم أريحية بيئة العمل من قبل منسوبي القسم, ومن ثم تردي الأداء وعدم الرغبة في التحسين والإبداع، تزامن ذلك مع عدم توافر سكرتارية مُعدة إعداداً مهنياً لمساعدة منسوبي القسم على إنجاز مهامهم بحرفية في زمن مناسب.
وقد تكمن المشكلة من وجهة نظر الباحث الأكاديمي الواقعي «ورغن 2006» في قناعة أعضاء هيئة التدريس ورؤساء الأقسام وعمداء الكليات في أن التميز التنافسي يتمثل في الإنجازات المتراكمة السابقة, وهذه رؤية غير صائبة, إذ تؤدي إلى تكرار العمل بطريقة روتينية غير متجددة وبالتالي غير منتجة وغير قادرة على المنافسة في سوق العمل.
ولا شك أن إدارة الأقسام يمكن أن تتميز بصفة مستمرة وتنافس غيرها عندما تمتلك صلاحيات فعلية ومرونة في استيعاب المستجدات في حينها, وتحظى بدعم القيادات الوسطى والعليا, كما يمكنها أيضاً أن تبادر في تحديث برامجها تلبية لمستجدات سوق العمل, والأهم أن تنافس في حالة وجود رئيس قسم يمتلك سجلاً حافلاً بالخبرات الإدارية والأكاديمية والقيادية ويتميز بعدة صفات منها, على سبيل المثال لا الحصر, القدوة الحسنة في التزامه وأدائه وأخلاقه وتعامله وقيمه ورؤيته التطويرية, وهذه صفات ناجعة ولازمة ليكون قادراً على التأثير في سلوك منسوبي القسم لتحقيق الأهداف بدرجة متميزة دون الحاجة لاستخدام سلطة النظام.
ومن تلك الصفات أيضاً توزيع المسؤوليات بين الأعضاء وحل الصراعات بصفة عادلة, وتقويم الأداء بموضوعية, وتنمية روح العمل الجماعي والمشاركة في اتخاذ القرارات والشفافية بين الأعضاء، ومنها تحديد أولويات العمل وفق المستجدات العلمية في حقل تخصصه بناءً على خطة مُعدة مسبقاً وتنفيذها وفق جدول زمني محدد.
ومنها تهيئة بيئة العمل لتكون مريحة للجميع ومشجعة لهم وجاذبة للمتميزين, ومنها تمثيل رؤية مجلس القسم عند مقابلة الجهات الأخرى حتى وإن كانت مخالفة لرأيه الشخصي, والمحافظة على هوية قسمه من حيث تميزها وتناغمها مع أهداف كليته وجامعته وحاجة سوق العمل, وبناء علاقات جيدة مع القطاعات ذات العلاقة بتوظيف مخرجات القسم بغية معرفة ماذا يريدون من المخرجات تمهيداً لقبول توظيفهم لاحقاً.
إن التميز التنافسي يعتمد كلياً على تعاون جميع الأطراف في القسم لإنجاز وظائفهم برؤية تشاركية موحدة, وهذا يتوقف على قدرة رؤساء الأقسام على استثمار مواهب جميع الأطراف واهتماماتهم المتعددة, وقدرتهم على التفاعل الإيجابي مع الأساتذة والطلبة والموظفين وكسب رضائهم وثقتهم.
ولعل الطريق الأمثل لتميز الأقسام يكمن في مواكبة المستجدات بما يلبي حاجات الطلبة ورضائهم من ناحية ومتطلبات سوق العمل من ناحية أخرى, وبناء ثقافة التميز التنافسية ودعمها؛ كونها تدفع نحو خلق ثقافة التفكير النقدي الذاتي والتفاعلي الإيجابي الرامي إلى تحسين مستمر لكافة أنشطة القسم المنهجية واللامنهجية بغرض الاحتفاظ بالمتميزين من أعضاء هيئة التدريس والموظفين والعناية بجذب الطلبة المتميزين وتحفيز دافعيتهم نحو التعلم الذاتي والمحافظة عليهم وإعدادهم إعداداً متميزاً قبل توجيههم نحو سوق العمل.
أ. د. علي بن سعد محمد آل هزاع القرني
كلية التربية
Add new comment