إنجاز الفشل

 

«إنجاز الفشل» عبارة كتبت باللون الأبيض على خلفية سوداء لصفحة وردت في كتاب Whatever You Think, Think the Opposite لمؤلفه Paul Arden أراد أن يقول بطريقة مبتكرة أنه فشل في اختيار صورة معبرة لهذه الصفحة كما هي طريقته في صفحات كتابه، حيث يستخدم الرسومات والصور والتعليق عليها بصورة خاطفة سريعة مشوقة، فكان الكتاب خفيفاً لطيفاً ظريفاً يستحق القراءة؛ ويؤكد الكاتب أن الفشل قد يكون إنجازا من نوع ما، وقد تكون حالة فشلك فرصة جيدة لبداية جديدة.

الفشل حالة نفسية نمر بها نتيجة تفاعلنا مع محطات الحياة اليومية بحسب الظرف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وتتعدد حالات الفشل والخيبة التي تتذوق مرارتها، فقد يتخلى عنك أصدقاؤك فجأة لأنك لا تروق لهم، أو يستغنى عن خدماتك في مؤسسة العمل بحجة أنه لا حاجة لك، أو قد يرفع رئيسك المباشر تقريره للإدارة بعدم كفاءتك للمنصب المطلوب، وقد يكون انسحابك من علاقة عاطفية صادمة موشحا بخيبة الأمل والإحباط، وقد تجد نفسك يوما ما خارج أسوار الجامعة لأنك لم تتخط بعد عتبة النجاح وذاكرتك لم تزل تستحضر كيف تواريت عن أنظار الزملاء هربا من أن يسألك متطفلهم عن الدرجة أفي الذيل أم أعلى القائمة، وقد تكون معدما لا تملك شيئاً من المال فضلا عن وظيفة أو عمل، وقد تكون جهودك في عمل خاص ضاعت أدراج الرياح وباءت بالفشل، وأعظم من ذلك من كان في القمة فهوى للقاع بعد أن كان ملء السمع والبصر، وقد ترسم أهدافا للحياة لكنها تفشل أو تظل حبيسة الأدراج حبرا على ورق، إنها لعبة الفشل تتكرر مرة بعد أخرى ولن تنتهي بعدُ حتى ننتهي نحن.

عندما نخفق أو نفشل في أمر من الأمور ينتابنا حالة من الحزن والألم وتسيطر علينا المخاوف والمشاعر السلبية وقد نمضي وقتا طويلا في جلد الذات وتأنيبها وقد نتجاوز في إهانتها والتقليل من شأنها حتى قد يفضي الأمر ببعضنا الى أن يقضي بقية حياته في زمرة الفاشلين المثبطين، ولم يدرك هذا الفاشل أو ذاك أن الفشل اختبار حقيقي في كل محطات حياتنا، وأن الإخفاق والخطأ من الأمور الشائعة واليقينية بغض النظر عن قدراتنا العقلية أو الجسدية أو من درجة اجتهادنا ومحاولاتنا وتوخينا الحذر؛ فالفشل ببساطة اختبار حقيقي متكرر لابد من تجريبه وليس لنا خيار في دفعه أو النجاة منه ولا أحد يستطيع أن يمنعك من إمكانية الوقوع في الفشل أو يغير من قانونه وحتميته.

وحتى نعيش مع الفشل بقصد النجاح لابد أن نعترف بصدق أن الفشل من مقتضيات طبيعتنا البشرية، منذ أن تعلمنا المشي على وجه الأرض إلى محاولاتنا النظر في حل مشكلة رياضية معقدة، ولا يعني هذا ضمنا أننا مجتمعٌ فاشل وأنه طبع على جبين كل منا كلمة «فاشل» أو تم منحنا شهادات الفشل، بل إن تجارب الفشل التي نمر بها وحالات الإخفاق والخطأ قد زودتنا بذخيرة حية لمواجهة الفشل والتغلب عليه كما زودتنا برصيد رائع لا يقدر بثمن من الخبرات والتجارب يصلح أن يكون خزانة ذهبية نحتفي بها كلما فتحنا بوابتها وقلبنا ذخائرها وكنوزها.

نحن لا نقف عند حافة الفشل في كل حياتنا ولن يلقي أحدنا بنفسه من القمة إلى قاع الخيبة والفشل بمحض رغبته وإرادته، وليس الفشل نتيجة نهائية لمسار حياتنا، بل هو جولة من عدد لامحدود من الجولات ومرحلة وليس نهاية المطاف، وعندما تسقط الراية في موقعة أو معركة من معارك الحياة فلا يعني هذا نهاية الحرب والاستسلام والهزيمة التي لا نصر بعدها.

إن الفشل جزء أصيل من قانون المحاولة والتكرار، كما هو النجاح والابتكار، وقد تكون المحاولات كلها فاشلة ولكننا لا نعلم سلفا بأننا سننجح أو نفشل في عمل أو محاولة ما، ثم إن علينا أن نفكر جيدا بحالة الفشل التي مررنا بها على أنها فرصة للبدء من جديد، دون كلل أو تردد حتى نصل إلى النجاح.

عندما سأل أحد الصحفيين «أديسون» متندرا بفشله في ابتكار المصباح الكهربائي لأكثر من ألف مرة، فرد عليه «أديسون» بلهجة الواثق قائلا: أنا لم أفشل ألف مرة، بل إن المصباح الكهربائي تم ابتكاره بألف مرة من الخطوات الفاشلة. هنا ركز أديسون على الإنجاز النهائي وترك للآخرين التحذير من إمكانية الفشل وتكراره، بل ذهب لأبعد من هذا ليقول إن المحاولة هي التي فشلت ولم أفشل أنا.

ليس بالضرورة اقتران الفشل بالنجاح، غير أن شواهد النجاح لاتكاد تخطئ مقولة أن النجاح هو المولود الشرعي لحالات الفشل والإخفاقات السابقة، فـ «النجاح هو القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل دون أن تفقد حماستك» بهذه العبارات وغيرها استطاع ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا السابق (1940-1945م) إثارة حماس المقاومة البريطانية عندما وجدت بريطانيا نفسها وحيدة في مواجهة هتلر في الحرب العلمية الثانية.

وبهذه الحالة سيكون الفشل المعلم الأعظم للنجاح والإنجاز، إذ إن ميزة التعلم هنا أنه يتم بالمحاولة والتجربة وتكرار ذلك لعدة مرات وهو دليل على جودة التعلم ونجاح عملية التعليم. كما أن تكرار المحاولة والخطأ يرفع من نضجنا العقلي والسلوكي وينمي الدافع والمحفز، إذ إن الجائزة والمكافأة والنتيجة النهائية تستحق هذا الجهد والعمل الدؤوب.

وختاما وحتى تتعلم لغة الإنجاز من الفشل لا بد أن تمنح نفسك الفرصة للوقوع في الفشل حتى مع تكرار المحاولة، فالتميز والإبداع يأتي غالباً من محاولات فشل كثيرة، فلقد عاش «جاك ما» مؤسس الموقع الصيني للتجارة الإلكترونية علي بابا دوت كوم (Alibaba.com) حالات فشل متكررة حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من النجاح وهو القائل «لا بد أن تعود نفسك على الرفض من الآخرين حتى لوكنت تمتلك مؤهلات عليا وقدرات استثنائية فلا تشتكي أحدا وحافظ على تركيزك حتى يبقى الحلم على قيد الحياة».

واعلم أن الإثارة والمتعة والتشويق تكمن في مواجهة الفشل والتغلب عليه، ولا يضيرك بعد اليوم أن تكون في ذيل القائمة فقد يصنع بك القاع يوما ما ما لم يكن في الحسبان وأنت في القمة، وسيعيد ترتيب حياتك في اتجاه آخر يكون فيه التميز والإنجاز حليفك بإذن الله.

د. عبدالإله بن إبراهيم الحيزان

hiz090@gmail.com

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA