أنسنة المدن ليست مجرد ممشى أو رصيف

ازداد الحديث والنقاش مؤخراً حول موضوع أنسنة المدن، وقد جاء الاهتمام بهذا الاتجاه بعد أن اتضح أن تصميم المدن في أغلب المجتمعات العربية لم يكن ليخدم الإنسان في الأصل، بل صمم ليخدم السيارة.

عندما ننظر إلى مدننا من الطائرة نراها جميلة ومبهرة، وعندما نقترب منها على الأرض لا نستدل على أي تفاصيل لهذا الجمال، وكأنها خدعة نظريات الحداثة في التخطيط العمراني التي ساوت بين بيئة ومجتمع المدينة في شبه الجزيرة العربية بمثيلاتها في شمال كندا أو في أدغال أفريقيا.

تلك النظريات لم تستلهم مفاهيم مدننا التقليدية، فهي نظريات لا تمت إلى بيئتنا وعاداتنا وتقاليدنا بصلة، ولا تراعي مقومات تاريخنا وحاضرنا، والخوف الآن على المستقبل فكم من الأمراض المزمنة والعادات الاجتماعية التي ظهرت وانتشرت نتيجة تلك التصاميم. 

أين تعزيز الحس بالمكان بين الإنسان والمدينة، فالإنسان في مدننا لا يرى ذاكرة مجتمعه ومعالم تراثه، بل لا يرى جمالاً حتى يصادقه، ولا يرى راحة حتى يرافقها ولا يرى تاريخاً حتى يزامله، ويمكن القول إن مدننا أصبحت فاقدة للأسس الضرورية في المدن وهي الأمان والراحة والجمال والاقتصاد.

عندما نسمع حديثاً عن أنسنة المدن محلياً نجده لا يتعدى إيجاد أماكن للمشي والترصيف في الغالب، لكن المدينة ليست بعداً مادياً فقط يتمثل في شارع عريض ورصيف وناطحة سحاب لا معنى لها، ولا روح فيها ولا تفاعل أوتواصل اجتماعي للإنسان في الفراغات بين مبانيها، فالشوارع أصبحت تعربد فيها السيارات والأبراج العالية أصبحت سكنى للحمام أو للإنسان فى حالة الاضطرار.

إذن، كيف تكون المدينة صديقة للإنسان؟!

أجاب على هذا التساؤل إيان جيل Jan Ghel في كتابه «أنسنة المدن»، حيث  تناول مواضيع تطبيقية لأنسنة المدن من واقع خلاصة نصف قرن من تجاربه كأكاديمي ومستشار في التصميم العمراني للعديد من المدن في أوروبا وأستراليا وأمريكا وآسيا التي تحولت من مدن للسيارات إلى مدن للناس، وكانت البداية من كوبنهاجن في الدنمارك التي تحولت من مدينة كانت شبكة الشوارع الأولوية فيها للسيارات إلى مدينة فيها شبكة فراغات عمرانية لحركة ونشاط الإنسان.

وقد تم تسويق مبدأ «أنسنة المدينة» إلى كثير من مدن العالم ويتلخص في أن تصبح المدينة تتعاطف مع سكانها وتحترمهم وتلبي احتياجات جميع فئات المجتمع من الصغير للكبير ومن صحيح البدن إلى ذوي الاحتياجات الخاصة، وأكد «جيل» في تجربته أن المدينة تغذي الروح من خلال تجربة حسية تستدعي ذاكرة المكان متناغمة تلامس حواس الإنسان الخمس دون الهجوم الحسي من ضوضاء وروائح كريهة وكل أشكال التلوث.

وعند «جيل» فإن المدينة بُعد اجتماعي ذات ألفة بين كل فئات المجتمع تعطي الإنسان مكاناً للسير على الأقدام للوصول إلى حاجياته الضرورية اليومية ليتفاعل مع أخيه الإنسان وليتغلب على أمراض العصر التي تفتك به، ولا تحيطه بمبانٍ تقزمه وتخنقه بل مكان يشعره بقيمته، بماضيه وحاضره، وتبتكر الأساليب الإبداعية لاستدامة مستقبله، فالمدينة المستدامة صديقة للبيئة توفر مقومات العيش المستدام للجيل الحالي والأجيال القادمة، وكذلك فإن ذاكرة المكان أو مراتع الصبا والشباب الذي نتركه خلفنا كلما كبرنا يعتبر من مقومات المدن الإنسانية.

لو تبنى العالم بأكمله هذه المفاهيم لن تتشابه مدننا؛ لأن السكان سيكون لهم دور كبير في تشكيلها بحسب خلفياتهم الثقافية وبيئاتهم المتنوعة، وهذا ما نحتاج أن يتعلمه طلابنا في مدرجات الجامعة وبالتحديد في كليات العمارة والتخطيط قبل أن يصبحوا صناع قرار على عاتقهم مهمة تشكيل مستقبل مدننا في القرن الحادي والعشرين.

أ. د. عبدالله محمد العابد

قسم التخطيط العمراني

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA