«المدنية» أهم خطوة في تاريخ البشرية

منذ فجر التاريخ، كان الهم الأول للإنسان هو البحث عن أفضل الوسائل لإشباع احتياجاته المادية والمعنوية، ومنها الحاجة للاجتماع بالآخرين كغريزة أساسية، وتكوين مجتمع منظم يسوده التعاون بين الأفراد والجماعات، وهو ما عبر عنه أبو الفلاسفة أفلاطون بقوله «إن الإنسان مدني بطبيعته»، حيث كان يقصد بكلمة «مدني» أن المدينة هي الشكل المثالي لتنظيم المجتمع الإنساني وتحقيق السعادة.

 

النظام والقانون

لكن هذه المثالية لم تتحقق في الواقع، حيث أدت زيادة أعداد البشر وتعقد المجتمعات مع قلة الموارد إلى نشوب الصراعات والحروب التي هددت الجميع بالفناء إن لم يجدوا وسيلة لتسوية الخلافات وتقسيم الموارد بشكل يقبله الجميع ويوفق بينهم، وكان ذلك وراء ظهور الحاجة إلى النظام والقانون، وكذلك الحاجة إلى السلطة القادرة على وضع القانون ثم فرضه على الجميع تجنباً لأخطار الفوضى والدمار.

وكانت الحاجة إلى الأمن والسلام هي أم الاختراع الذي أوجد السلطة القادرة على تنظيم الجماعة الإنسانية، وبدأت منذ ذلك الوقت قصة كفاح الإنسان بحثاً عن الأسلوب الأمثل لتنظيم العلاقات الاجتماعية والشكل المثالي للسلطة الذي يضمن تحقيق الخير والسعادة والفضيلة للجميع.

 

الخطوة الأهم

يرى العلماء في وصول المجتمعات البشرية إلى المدنية الخطوة الأهم في حياتها، حيث إن تأسيس المدن في بلاد الشرق الأدنى القديم ابتداء من النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد يعد الأساس للمدنية، حيث توافرت شروط كثيرة حتى وصل الإنسان إلى هذه المرحلة المتقدمة.

ويرى جوردن تشايلد أن المدنية أو الثورة الحضرية، قد حدثت أربع مرات في العالم القديم وهي بالتحديد في: مصر، وادي الرافدين، الهند، والصين، أما في العالم الجديد فقد ظهرت مدنيات مثل: الأولمية، والمايا، والمدنية الكلاسيكية في وسط بيرو، والمدنية الأيجية المينوية، ومدنية جنوب روسيا.

 

مفهوم المدنية

اختلف الباحثون في تحديد مفهوم المدنية «Civilization» كما اختلفوا في تحديد مفهوم الحضارة «Civilization»، فالمدنية في اللغة العربية تأتي من جذر «تمدن» أي استقر وسكن عن الترحال، أما في اللغة الإنجليزية فتعني «Civilization» وتترجم إلى الحضارة في بعض الأحيان، كما تشير إلى الحضرية أو التحضر، وتعني مجموعة السمات الشخصية الاجتماعية العامة التي تميز ساكني المدن أو الحواضر عن غيرهم من ساكني الأرياف البعيدة عن المدينة أو البوادي، ويذهب البعض إلى تفسير المدنية على أنها الرقي الحضاري للحضارة فيرون أن المدنية هي مجموعة من القيم التي ترقى بالإنسان إلى مستوى الانسانية الذي يحلم به والابتعاد عن النرجسية التي تعمل على غلق المجتمعات.

 

السمات العامة للمدنية

تتميز الحياة المدنية للإنسان بقدر تميز هذه المدنية باستيعاب الأفراد والمخترعات والعناصر الحضارية الأخرى وتَمَثُّلها واستغلالها لصالح الإنسان المديني، وهذا ما فعلته مدنيات الشرق الأدنى القديم التي تميزت عن غيرها بالصفة المدنية التي أهلتها لإنشاء الحضارات والحفاظ عليها بل وتطويرها وجعلها منارة على طول الزمن للحضارات الأخرى، وهي تعد الأقدم بين الحضارات البشرية، وكانت البيئة بغناها والإنسان بالعمل الدؤوب لتسخير هذه البيئة من أهم مكونات تلك الحضارات.

 

النظرية الثنائية

هناك عدة نظريات في نشوء المدنية والمدينة، منها النظرية الثنائية، وتقوم على أن مفهوم المدنية يعادل مفهوم الحضارة ولكن المستوى الاجتماعي للمدنية هو الأعلى، ومن العلماء الذين نادوا بهذه النظرية فيبر «Weber1958»، وذكر أن مراكز التمدن تتصف بأنها محصنة، وبها سوق، ولها محكمتها وقانونها الخاص، ولها ارتباطات من نوع ما، ومستقلة ولها قيادة واحدة.

 

نظرية التطور

تقول هذه النظرية إن الوصول إلى مرحلة التمدن يعد تطوراً ثقافياً لدى المجتمعات البشرية، حيث أقر جوردن تشايلد بنظرية التطور في ثقافة الإنسان التي نادى بها مورغان في القرن التاسع عشر، حيث اعتبر أن مرحلة الجمع والالتقاط في العصر الحجري القديم مساوية لمرحلة التوحش، أما مرحلة المجتمعات المتمدنة في العصر البرونزي فتقابل مرحلة الحضارة.

 

نظرية علاقات السلطة

تقوم هذه النظرية على ضرورة تجنب النظرية الانقسامية وترى بأن قيام المدن ناشئ عن عملية تطورية تنعكس في توزيع السلطة بين أفراد المجتمع، ويرى القائمون عليها بأن المدينة هي مستودع للسلطات وبأن المؤسسات هي أدوات يستخدمها الناس للوصول إلى حالة رفيعة المستوى، ويؤكد العالم بوشيللاتي «Buccellati» على البعد السياسي في هذه المسألة، إذ يعتبر أن التمدن انعكاس لمتغيرات القوى السياسية وظهور البيروقراطية.

 

أصالة الحضارات

وفي الختام، لا ترتكز مدنية وأصالة الحضارات الإنسانية القديمة منها على وجه الخصوص في نشوئها وتطورها، على نشوء المدن فيها فحسب، بل ترتكز على التفاعل المباشر بين الإنسان المدني كعلاقة انتماء اجتماعية وبين الأرض التي يعيش عليها، وبالتالي تلك العلاقة التي تؤهل هذا الإنسان إلى استيعاب معطيات الحضارة التي لا بد أن تنشأ من تفاعلها الإيجابي مع الحضارات الأخرى من خلال الاستفادة من الخبرات المتراكمة لبني البشر في بناء النظم والأنساق الاجتماعية التي تؤهلها للاستمرار والتطور.

 

سارة عبدالعزيز القعيد

كلية السياحة والآثار

طالبة ماجستير

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA