تحل هذه الأيام ذكرى بهيجة في وجدان كل مواطن ومواطنة وهي الاحتفاء باليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، ولعلي أرى أن إحياء هذه الذكرى السامية ببزوغ أول وحدة وطنية في التاريخ العربي الحديث، يجدر أن يقترن بتذكير جيل الشباب والنشء الجديد الذين يشكلون الأغلبية من السكان، بعبقرية وطنهم إنساناً ومكاناً، أود أن يعرفوا من هم؟ وأين هم؟ وسط هذه الهجمات العسكرية والإعلامية المسمومة والحاقدة المتعددة المصادر والأغراض، والتي تتناوش الوطن على مدار الساعة، وفي خِضَم عولمة إعلامية تجتاح أصقاع المعمورة، تستميت في تغريب الحياة والقيم، مستهدفة قلعتهم العربية الإسلامية الصامدة.
من نحن
للإجابة على «من هم» أقول أنهم أحفاد تاريخ مجيد للعديد من الحضارات التي قامت وتعاقبت على أرضهم منذ العصور الحجرية المبكرة، حيث أثبتت المعثورات الآثارية أن الإنسان الأول استقر على أراضي المملكة العربية السعودية منذ مليون وربع المليون سنة.
وفي عهود الممالك العربية القديمة والوسطى ساهم السكان الأوائل في تشييد صرح الحضارة الإنسانية عبر مشاركتهم في اختراع الزراعة والكتابة والعجلة وتأسيس المدن والدول وسن القوانين،حتى بزغ نور الإسلام، فانصهر أجدادهم تحت رايته، ودفع بهم إلى أرجاء المعمورة يحملون الفكر الإلهي الأخير للبشرية جمعاء، ناشرين الدعوة إلى التوحيد والخير والمحبة والسلام.
ازدهار متواصل
وتواصل الازدهار الحضاري في العصور الإسلامية المتتالية، الأموي والعباسي والفاطمي والأيوبي والمملوكي، حتى العصر العثماني، إلى أن شهد أواسط القرن الحادي عشر للهجرة، إرهاصات تفجر قوة جديدة، نمت وتوسع نفوذها حتى ضمت تحت رايتها معظم أجزاء جزيرة العرب هي الدولة السعودية بدوريها الأول والثاني، والتي وطَّد أركانها الإمام محمد بن سعود وخلفاؤه، وفي أوائل القرن الرابع عشر للهجرة استطاع البطل القومي للأمة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، ومعه رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه عبر عشرات السنين، من لمِّ وترميم أشلاء الوطن الممزق أرضاً وسكاناً، ثم لينضدوها قطعة قطعة في لوحة وحدوية كان إبداعها ضرباً من المستحيل؛ وسط السيناريوهات القَبَلِيَّة والإقليمية والدولية والاستعمارية الشرسة القائمة على الأرض آنذاك.
أين نحن
أما سؤال «أين هم» فأجيب بأن الجغرافيا والجيولوجيا أعطتهم مكانة استثنائية روحية وتضاريسية واقتصادية على خريطة العالم، فأرضهم احتضنت آخر الرسالات السماوية، ونحوها يولي مليار ونصف المليار مسلم وجوهم شطرها خمس مرات في اليوم، ويحلم كل مسلم بزيارة البيت العتيق ومسجد وقبر الرسول الأمين حاجاً ومعتمراً، ولها موقع جغرافي حاكم أتاح العديد من القيم والعلاقات المكانية البرية والبحرية، فقد صنع من أراضي الوطن جسراً برياً في قلب الثلاثية القارية القديمة: آسيا وإفريقيا وأوروبا.
موقع استراتيجي
وضاعفت الإطلالة على مسطحين مائيين، من قيمة الموقع وفعاليته، ففي الغرب يمثل البحر الأحمر طريق وسط العالم، وهو همزة الوصل الإستراتيجية بين شمال غرب أوروبا وجنوب شرق آسيا، وفي الشرق يظهر الخليج العربي كذراع للمحيط الهندي، حيث كان وما يزال ملتقي الطرق البرية والتجارية الآسيوية والأوروبية والإفريقية.كما يحمل الموقع حلماً واعداً يدشن فتحاً جديداً في عالم النقل البحري عبرمشروع لفتح قناة مائية عبر الأراضي السعودية تربط بين البحر الأحمر والخليج العربي، ويضع عنصر المساحة، المملكة العربية السعودية البالغ نحو مليوني كم2في المرتبة الثانية عشرة بين كبريات الدول في العالم.
متحف جغرافي عالي التنوع
أما مظاهر السطح فهي ليست كما تبدو من بعيد صندوق من الرمال، بل متحف جغرافي عالي التنوع يجمع بين الجبال الشاهقة والأودية العميقة وبحار الرمال العظمى والهضاب البركانية الشاسعة، بل وتدخل المعالم الطبيعية الوطنية في القوائم العالمية القياسية، فمنها صحراء الربع الخالي، وهي أكبر مساحات رملية متصلة في العالم، وحافة طويق وهي واحدة من أطول وأجمل الحافات على سطح الأرض، وتتضمن سلاسل المرتفعات في جبال عسير والحجاز ومدين العديد من أجمل المواقع الجيولوجية الدولية.
حتى المناخ الذي يوصف بأنه حار جاف صيفاً، بارد ممطر أحياناً شتاء، يحمل في خصائصه التفصيلية ثلاثة أقاليم مناخية رئيسة: قاري، ساحلي، وجبلي، وهي تتيح على مدار العام درجات حرارية ملائمة للنشاط البشري، كما أنه مناخ ينجو من الأعاصير المدمرة، ودرجات الحرارة المتدنية.
أكبر احتياط نفطي
ويحمل قلب الأرض أكبر احتياطي للنفط في العالم، ما يبين الدور الحيوي الهائل الذي يلعبه الوطن في رخاء البشرية في الحاضر والمستقبل، فهو مخزن عظيم لأهم مادة استراتيجية في تاريخ الحضارة الإنسانية، إضافة للإمكانيات الهائلة لوجه الأرض في تأمين الطاقة الشمسية، إذ إن استثمار 1% فقط من الإشعاع الشمسي الواصل إليها، يمكن أن يولد طاقة تعادل عشرة ملايين برميل نفط.
وفي الختام أوجه كلمة للشباب والشابات وهم الشريحة الكبرى في المجتمع، إن أجدادهم وآباءهم نجحوا في المحافظة على دينهم وعروبتهم، والمواءمة بين مواردهم المحدودة وبناء الدولة في ظل ظروف نُدْرَة بالغة القسوة، والشباب اليوم وهم يتمتعون بإمكانيات وافرة وخيارات عديدة، مطالبون بالتسلح بالعلم والإيمان، وبذل العطاء السخي والكد وقبول التحدي الذي تفرضه المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية المتسارعة في تجديد معاني ومواصفات تقدم وطنهم ووضعه في مكانه اللائق والمستحق في السباق الحضاري الأممي، والذي يضمنه تمسكهم بتعاليم دينهم وقيمهم الثقافية والاجتماعية، وكدحهم النبيل، وحسن كفاءة إدارة واستغلال ثروات باطن وسطح أرضهم الطيبة المباركة.
في كل مناسبة عيد وطني، يجب أن لا نكتفي بتقييم وسرد ما أعطانا الوطن، بل،نسأل أنفسنا ماذا قدمنا نحن إليه، لِنُحَوِّل فرح اللحظة احتفالاً على مدار العام في حب وخدمة الوطن النفيس.
د. بدر بن عادل الفقير
قسم الجغرافيا
إضافة تعليق جديد