أجد نفسي في حالة من توقف الحواس والحركات وتفعيل هوية التدبر والتفكر في كتاب الله تعالى عندما تقع عيني أو يقع سمعي على تلك الآية المعجزة في سورة يوسف وتحديداً عند قوله تعالى )وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون( يوسف: 105.
فرغم أن كل آيات الله وآيات كتابه الكريم معجز، فإن هذه الآية تلخص كل قوانين هذا الكون وهي تخاطب البشرية أن هناك دلائل وعلامات في السموات والأرض تفسر كل حالة شك أو عدم معرفة بأسرار الكون تقودنا إلى حقيقة واحده تقول «كل نظرية علمية كانت أو أدبية، فإن براهين إثباتها وإحداثيات مواقعها مسجلة في كتاب الله من بداية سورة الحمد إلى نهاية سورة الناس».
لقد تمثلت هذه الخاطرة وتبلورت فكرتها من التسلل المتتابع لآيات سورة الكهف وإعجاز ما فيها من قصص قرآني من بداية استعراض سيرة ذي القرنين حتى نهايتها وما منحه الله من هبات تتعدى حدود عقلنا البشري.
قال تعالى في سورة الكهف )وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)(. هذا التسلسل البديع المتتابع يربط الأحداث فيما بينها ووردت هذه اللفتة الرائعة ضمن النص الرباني في قوله تعالى )فَأَتْبَعَ سَبَبًا(.
عندما جاء التساؤل عن ذي القرنين جاء الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم يخبره عن حقيقة ذي القرنين، قال السعدي في تفسير هذه الآيات: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي: ملَّكه الله تعالى ومكَّنه من النفوذ في أقطار الأرض وانقيادهم له، وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا أي: أعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرًا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل». انتهى كلامه.
ثم جاء السياق )فأتبع سببًا( أي: بعد التمكين في الأرض وإتيانه من كل شيء سببا وطريقة تمكنه من تملك الأرض، والسبب هو الطريقة التي تسهل عليه فرض سلطانه وسيطرته عليها، وهنا الأسباب هي الطرق والمنافذ التي تقود ذا القرنين للوصول إلى مراده.
من هنا نتوصل لحقائق علمية مهمة في استنتاج الظواهر العلمية وهي معرفة البراهين الهامة التي تفسر كل الفرضيات التي تصب في قالب علمي يؤدي إلى طريق يبشر بولادة نظرية علمية وتثبت صحتها وتتلخص في التالي:
• إن العلم له هوية ربانية يختص بها الله سبحانه وتعالى ويؤتيه من يشاء من عباده )وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء(. البقرة: 255.
• تفسير أي ظاهرة من ظواهر الكون تعتمد على براهين وهبها الله لمن اختصه وليس شرطًا أن يكون ذلك الشخص مسلما وهذه الهبة رحمة من الله للبشرية لتنير لهم ما اختلف عليهم )يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم(. آل عمران: 74]. والرحمة هي العلم، كما قال تعالى )فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا](. الكهف: 65.
• تعتمد على قدرة الشخص في ربط البراهين التي وهبها الله له للوصول إلى حقيقة علمية «نظرية» وهذه الخاصية لا يمكن أن تكون إلا بإتباع الأسباب، والأسباب نستطيع أن نطلق عليها البراهين الدالة على وجود حقيقة ما )يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا(. النساء: 174.
• أهمية التدوين لكل حقيقة علمية، والتدوين من العلم الذي وهبه الله لعباده حيث قال تعالى )الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( العلق: 4]، والقلم من أدوات العلم وهو أداة للتدوين، لأن كل علم لا يدون يخشى عليه من الضياع، وكل علم لم تخطه الأيدي وتكتبه الأقلام ينتهي به المقام إلى الزوال مع زوال صاحب ذلك العلم، إلا علم الله فهو باقٍ إلى قيام الساعة ومن علم الله كلام الله كما قال تعالى )ِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(. الحجر: 9.
• النقطة الأخيرة من البراهين الدالة على حقيقة العلم والتي لا تقبل الافتراض والإيمان بها من المسلمات هي ما اختص الله به أنبياءه والصالحين من عباده من العلم والمعرفة، وهنا نكتفي بقول الله تعالى )وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(. البقرة: 33.
بشير بن عبدالله الصم
قسم النبات والأحياء الدقيقة – كلية العلوم
إضافة تعليق جديد