تدمير البعد الإنساني في التصميم العمراني.. مسؤولية من؟

 

لمدى عقود ظل موضوع البعد الإنساني في التصميم العمراني مهملاً وأحياناً عشوائيًا، وانحصر في كثير من الأحيان على ممشى أو رصيف، لكن ازداد مؤخراً الحديث حول موضوع أنسنة المدن، فتبين أن التفاعل بين الإنسان والمكان يعني القدرة على أنسنة الفضاء الذي يحتويه بكل ما يتضمنه من معان ودلالات، فالحيز المكاني لا يقتصر على الخصائص الفيزيائية وإنما يتعداها إلى الهوية التي تمنح الإحساس بحيوية الحيز المكاني وتحقق المنفعة مع المحافظة على الخصوصية.

فالمدينة كتاب مفتوح يمكن قراءته وكل ما علينا هو معرفة مفردات لغته، المباني وعلاقتها بممرات المشاة والشوارع والميادين والساحات والحدائق هي القواعد اللغوية التي تعطي صفات تركيب هذا الكيان، فهي تعطيه إما صفات مادية فقط تتمثل في شارع عريض تعربد فيه السيارات ورصيف وناطحة سحاب لا روح فيها ولا تفاعل، أو تواصل اجتماعي وكل الصفات الإنسانية من حيوية وتنوع.

البعد الإنساني في التصميم العمراني يعني باختصار أن يتوفر لكل إنسان الحق في الحصول على مياه شرب نقية، والوصول بسهولة وأمان إلى الشارع والمجال العام في المدينة، وأن يرى شجرة من نافذة بيته، وأن يجلس على كرسي في الفراغ العام قرب منزله يشاهد أطفاله يلعبون في الحديقة العامة، أو المشي في الممشى العام الذي لا يبعد عن منزله أكثر من عشر دقائق ويصبح عادته اليومية التي يقاوم بها أمراض السكر والضغط وبقية الأمراض المزمنة.

وكما قال إيان جل: «مثلما يشكل الإنسان المدينة تشكل المدينة الإنسان»، فيتشكل الإنسان في المدينة بناءً على معطيات كل عصر، فالإنسان أصبح اليوم لاحاجة بأن يتصل بأخيه الإنسان وجهاً لوجه في الفراغ الفيزيائي لإنجاز ما يريد، بل يتصل به من خلال الفراغ الافتراضي ويتعامل معه ويمارس فيه عن بعد معظم أنشطته العلمية والذهنية.

وإن ما يزيد من توحش الإنسان هو إقامة عوالم افتراضية لا وجود لها في دنيا الواقع ومتحررة من قيوده وقوانينه، ورغم أن «لوكوربوزيه» كان يرى أن المدينة عبارة عن ماكينة machine وعلى الإنسان أن يعيش بين أجزائها المتباعدة، إلا أنه يرى في المقابل أن التعامل مع أجزاء المدينة كان على وفق البعد الإنساني المشتق من الإنسان ككل أو من خلال حركاته وخطواته كأجزاء، إذ إنه يعد الهندسة لغة العقل، والعقل جزء من الفطرة، أي إنهـا نتاج مباشر قريب من الفطرة والحدس.

ويرى أنه لا يوجد إنسان بدائي، ولكن يوجد إنسان أول، والبدائية المقصودة هي في أدواته وليس في عقله، وذلك أن للإنسان فطرة كما له عقل يمثل النتاج الحضاري للإنسان، فالإنسان الأول كان يتفاعل مع كل من الفطرة والعقل لكنه كان يغلب الحدس والفطرة على العقل، وذلك لبدائية أدواته وخلفيته الحضارية.

وبالرغم من بدائية أدوات الإنسان الأول إلا أنه بفطرته وعقله وخبراته الحضارية المتراكمة لقرون بنى المدن، ومع الوصول للنصف الثاني من القرن العشرين، أوكل تشكيل المدن لمهنيين من مخططين ومعماريين لم يكن البعد الإنساني من ضمن أولوياتهم، فقد وظفوا نظريات الحداثة بما فيها المذهب الوظيفي الذي نادى به لوكوربوزيه للفصل بين استعمالات المدينة.

وقد كان أول من دق ناقوس خطر الفصل بين الاستخدامات في تدمير البعد الإنساني جين جاكوبس «Jane Jacobs, 1961»  في كتابها «موت وحياة المدن الأمريكية الكبرى»، حيث ترى أن فصل الاستخدامات «السكنية والتجارية والصناعية» وجعل المباني لأول مرة في تاريخ بناء المدن ككتل قائمة بذاتها وليست نتاج تكاملها مع الفراغات العمرانية، أدى إلى تدهور جودة الحياة في المدينة، وبالتالي فقدت الفراغات العمرانية التي تستوعب النشاط الإنساني دورها على حساب الشوارع السريعة وزيادة الكثافة المرورية وما نتج عنها من  ضوضاء وتلوث وحوادث مرورية.

وفي كتاب «أنسنة المدن Cities for People» تناول جيل «Ghel 2010» مواضيع تطبيقية لأنسنة المدينة من واقع خلاصة نصف قرن من تجاربه كأكاديمي ومستشار في التصميم العمراني  للعديد من المدن في أوروبا، وأستراليا وأمريكا وآسيا التي تحولت من مدن للسيارات إلى مدن للناس، وكانت البداية من كوبنهاجن في الدنمارك التي تحولت من مدينة كانت شبكة الشوارع الأولوية فيها للسيارات إلى مدينة فيها شبكة فراغات عمرانية لحركة ونشاط الإنسان.

وقد سوّق «جيل Ghel» مبدأ «أنسنة المدينة» إلى كثير من مدن العالم، ونادى بجعل المدن تتعاطف مع سكانها وتحترمهم وتلبي احتياجاتهم، من الصغير للكبير ومن صحيح البدن إلى ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد أكد أن الرؤية لمدينة إنسانية يجب أن ترتكز على أربعة أهداف هي الحيوية والأمان والاستدامة والصحة.

فالمدينة الحيوية هي التي تغذي الروح من خلال تجربة حسية تستدعي ذاكرة المكان متناغمة تلامس حواس الإنسان الخمس، فذاكرة المكان أو مراتع الصبا والشباب الذي نتركه خلفنا كلما كبرنا يعتبر من مقومات المدينة الحيوية.

والمدينة الآمنة هي التي تعزز الرغبة في الحركة وتشجع على بقاء الناس في الفراغات العمرانية وتهيئ لهم سبل المشي والتنزه من خلال ممرات مشاة ودراجات آمنة، وأيضاً توفر مساحات جذابة تمكن من البقاء في الفراغات العمرانية، بالإضافة إلى تعدد وتنوع الأنشطة في هذه الفراغات.

أما المدينة المستدامة فهي مكان لا يحيط الإنسان بمبانٍ تقزمه وتخنقه بل مكان يشعره بقيمته بماضيه وحاضرة وتبتكر الأساليب الإبداعية لاستدامة مستقبله، وهي صديقة للبيئة توفر مقومات العيش المستدام للجيل الحالي والأجيال القادمة، والمدينة الصحية اليوم هي التي تقرر أن المشي وركوب الدراجات والنقل العام روتين يومي لقضاء كل المتطلبات اليومية ولكل أفراد المجتمع من الوزير إلى الغفير.

وخلاصة القول إن الاهتمام بالبعد الإنساني في التصميم العمراني أصبح من الضرورة بمكان؛ خاصة بعد أن أصبحت في بداية الألفية الثالثة نسبة التحضر في العالم  تزيد على نسبة الريف، مما يدل على أن المدن نمت بشكل كبير وستنمو بسرعة مذهلة في المستقبل، فالمدن الحالية أو المستقبلية يجب أن تستفيد من تجارب المدن التي بدأت بإعادة الاعتبار للإنسان في المدينة مثل كوبنهاجن وأمستردام  وملبورن وغيرها، وأن تبدأ من الآن في أنسنة المدن وجعلها مدناً حيوية آمنة مستدامة وصحية ليعيش فيها الإنسان بسعادة.

أ. د. عبدالله العابد

التصميم الحضري

كلية العمارة والتخطيط

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA