يُعَدُّ تَعْلِيمُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ النَّاطِقِينَ بِهَا، أَوْ تَعْلِيمُهَا كَلُغَةٍ ثَانِيَة، حِرْفَةً وَصَنْعَةً، وَمُتْعَةً وَمَشَقَّةً، أُجْرَةٌ فِي الدُّنْيَا، وأَجْرٌ فِي الْآخِرَةِ، يَجَمَعُ الْمُتَنَاقِضَاتِ؛ لِيَخْرُجَ فِي أَحْلَى الصِّفَاتِ، يَحْتَاجُ لِصَبْرٍ وَاِحْتِسَابٍ فِي الأَمْرِ، أَحْدَاثُهُ كَثِيرَةٌ وَمَوَاقِفُهُ غَفِيرَةٌ.
وَإِلَيْكُمْ بّعْضُ الْمَوَاقِفِ مِنْ الحَيَاةِ العَمَلِيَّةِ فِي تَعْلِيمِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ النَّاطِقِينَ بِهَا:
الْمَوْقِفُ الْأَوَّلُ: أَحَدُ الْمُتَعَلِّمِينَ يَعْمَلُ بِرُتْبَةِ أُسْتَاذ دُكْتُورٍ فِي جَامِعَةِ الْمَلِكِ سَعُودٍ، َيَتَعَلَّمُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ فِي إِحْدَى الدَّوْرَاتِ الْمَسَائِيَّةِ، يُحَدِّثُنِي عَنْ مَشَاعِرِهِ وَهُوَ يَسْتَمِعُ ِلِلنَّاسِ حَوْلَهُ يَبْكُونَ أَثْنَاءَ تَأْدِيَةِ الصَّلَاةِ، يَقُولُ: أَشْعُرُ بِالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَنْتَابُنِي الحُزْنُ وَالأَلَمُ، تَبْدَأُ عَيْنَاي بِذَرْفِ الدُّمُوعِ، فَتَحْرِقُ مَرَارَتُهَا خَدَّاي، أَكْتَمُ حَشْرَجَةً فِي صَدْرِي، وَأَكْبِتُ أَنِينًا دَاخِلِي، وَيَأْبَى الْبُكَاءُ إِلَّا أَنْ يُخْرِجَهُمَا، والعَوِيلُ أَنْ َيُظْهِرَهُمَا!
وَيُضيفُ: لكِنَّ سَبَبَ بُكَائِي يَخْتَلِفُ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِمُ، فَهُمُ يَخْشَوْنَ اللهَ عَنْ عِلْمٍ؛ لِاَنَّهُمُ يَفْهَمُونَ الْلُّغَةَ الَّتِي يَسْمَعُونَهَا، فَالقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِلُغَتِهِمُ العَرَبِيَّةِ، وَأَنْ لَا أَعْرِفُهَا وَلَا أَفْهَمُهَا؛ لِذَا أَبْدَأُ بِالتَّسَاؤُلِ، هَلْ يَبْكُونَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ النَّارِ، أَمْ مِنَ الفَرَحِ بالْجَنَّةِ؟ أَمْ مِنْ كِلَيْهِمَا؟ مَا مَعَانِي الآيَاتِ الَّتِي أَنْصَتُوا لَهَا، يَا أُسْتَاذِي... َهَذَا مَا يُبْكِينِي، وَلِهَذَا خَصَّصْتُ وَقْتًا لِتعَلُّمِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ كَثْرَةِ مَشَاغِلِي وَكِبَرِ سِنِّي.
السُّؤَالُ الْمُهِّمُّ هُنَا، مَنْ أَوْلَى بِالْبُكَاءِ هُوَ أَمْ نَحْنُ؟ لِلعِلْمِ فِي نِهَايَةِ الدَّوْرَةِ أَلْقَى الأُسْتَاذُ الدُّكْتُورُ كَلِمَةَ الْخِرِّيْجِينَ.
الْمَوْقِفُ الثَّانِي: مَجْمُوعَةٌ مِنْ مُتْعَلِّمِي اللُّغَةِ الْعَّرَبِيَّةِ لُغَةً ثَانِيَةً، مِنْ كِبِارِ الضُّيوفِ الْعَامِلِينَ بِالْبِلَدِ، وَأَعْضَاءِ هَيْئَةِ التَّدْريِسِ وِالْعِامِلِيَن بِجَامِعَةِ الْمَلِكِ سُعُودٍ، يَسْأَلُ أَحَدُهُمُ، هَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَتَكَلَّمَ وَنَقْرَأَ كَالعَرَبِ، فَخَطَرَتْ لِي فِكْرَةٌ أَنْ أَقْرَأَ قِطْعَةً جَهْرِيًّا وَنَحْسُبُ الْوَقْتَ الَّذِي اِسْتَغْرَقْتُهُ، ثُمَّ نَبْدَأُ بِالتَّدَرُّبِ لِيَصِلَ الْمُتَعَلِّمُونَ لِلْوَقْتِ نَفْسِهِ تَقْرِيبًا.
بعْدَ وَقْتٍ مِنْ التَّدْرِيبِ اِسْتَطَاعَ الجَمِيعُ الوُصُولَ لِلهَدَفِ مَعَ بَعْضِ الأَخْطَاءِ، وَلَكِنَّ أَحَدَهُمْ وَاجَهَ صُعُوبَةً فِي ذَلِكَ، بَدَا عَلَى وَجْهِهِ الْأَسَى، فَالرَّجُلُ مِنْ كِبَارِ الْمُسْتَثْمِرِينَ الأَجَانِبِ فِي الْمَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السَّعُودِيَّةِ، جَاءَ مِنْ بَلَادِهِ وَعُمْرُهُ فِي الْعِشْرِينَاتِ، وَيَتَعَلَّمُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ وَهُوَ فِي الخَمْسِينَاتِ، عُمُومًا اِنْتَهَي وَقْتُ الْمُحَاضَرَةِ، وَخَرَجَ الْجَمِيعُ فَرِحَيْنَ بِالإِنْجَازِ، بَيْنَمَا خَرَجَ صَدِيقُنَا يَحْمِلُ بِيَدِهِ اليُسْرَى كُتُبَهُ فِي حَقِيبَةٍ جِلْدِيَّةٍ صَغِيرَةٍ، وَيَدُهُ اليُمْنَى فِي جَيْبِهِ، يَتَهَادَى يَمْنَةً وَيُسْرَةً، وَيَهُزُّ رَأْسَهُ، لَا أُعْرِفُ بِمَا يُفَكِّرُ، وَلَكِنَّ مَا أَعْرِفُهُ أَنَّهُ كَانَ يَحْسُبُ الوَقْتَ لَنَا أَثْنَاءَ التَّدْرِيبِ عَلَى القِرَاءَةِ الجَهْرِيَّةِ؛ لِمَعْرِفَةِ مَنَّ سَيَقْتَرِبُ مِنْ تَحْقِيقِ الزَّمَنِ؛ نَحْتَاجُ دَائِمًا لِلصَّبْرِ، فَمَا يَخْفَى عَلَيْنَا اليَوْمَ سَنَعْرِفُهُ غَدًا.
فِي اليَوْمِ التَّالِي حَضَرْتُ إِلَى مَقَرِّ الدَّوْرَةِ التَّعْلِيمِيَّةِ مُبَكِّرًا، وَأَنَا أَسِيرُ لَمْحَتُ رَجُلًا جَالِسًا، مُنْتَصِبَ الظَّهْرِ رَافَعَ الرَّأْسِ، يَضَعُ رِجْلًا عَلَى أُخْرَى، رَافِعًا الكِتَابَ فِي يَدَيْهِ، مَنْظَرٌ أُشَاهِدُهُ كُلَّ يَوْمٍ، رَجُلٌ َحْرِصَ عَلَى اِسْتِثْمَارِ وَقْتِهِ فِي القِرَاءَةِ وَالتَّعَلُّمِ، كَحِرْصِهِ عَلَى اِسْتِثْمَارِ أَمْوَالِهِ، سَلَّمَتُ عَلَيْهِ وَرَدَّ السَّلَامَ، لَمْ يَبْدُ عَلَيْهِ مَا كَانَ بِالْأَمْسِ، اِنْتَظَرْنَا حَتَّى حَضَرَ البَقِيَّةُ فِي الْوَقْتِ تَمَامًا، اِسْتَأْذَنَ الْمُسْتَثْمِرُ الكَبِيرُ؛ أَنْ يَقْرَأَ القِطْعَةَ الَّتِي تَمَرَّنَّا عَلَى قِرَاءَتِهَا بِالأَمْسِ، بِكُلِّ ثِقَةٍ أَخْرَجَ جِهَازَهُ وَأَعْطَاهُ أَحَدَ الحَاضِرِينَ لِحِسَابِ الوَقْتِ، بَدَأَ القِرَاءَةَ وَانْتَهَى فِي الوَقْتِ الْمُحَدَّدِ؛ لِيُصَفِّقَ الجَمِيعُ وَيَصْرُخُوا لَا شُعُورِيًا، وَيَعُمَّ جُوٌ مِنْ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي الْقَاعَةِ.
يَا اللهُ! يَا لَهُ مِنْ رَجُلٍ صَبُورِ شُجَاعٍ قَوِيٍّ، لَدَيْهِ عَزِيمَةٌ وَإِصْرَارٌ! لَقَدْ تَعَلَّمَتُ مِنْهُ الشَّيْءَ الكَثِيرَ، وَأَعْطَانِي وَالحَاضِرِينَ دَرْسًا لَنْ نَنْسَاهُ.
لِلْعِلْمِ اِسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الْمَجْمُوعَةِ لِمُدَّةِ عَامٍ وَنِصْفِ الْعَامِ تَتَعَلَّمُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ، وَأَلْقَى أَحَدُهُمُ كَلِمَةَ الْقَنَاصِلَةِ الْعَسْكَرِييِّنَ الْمُمَثِّلِينَ لِسَفَارَاتِ بُلْدَانِهِمُ، أَمَامَ الْمَلِكِ سَلْمَانَ لَدَى اِسْتِقْبَالِهِمُ إِبَّانَ وِلَايَتِهِ لِلْعَهْد، ولَقَدْ تَابَعْتُ الْكَلِمَةَ بِكُلِّ فَخْرٍ وَاعْتِزَازٍ.
د. سعد بن علي بن سعد آل سعد الغامدي
معهد اللغويات العربية
إضافة تعليق جديد