الثقافة الإلكترونية.. إلى أين؟

أصبحت الثقافة اليوم تعتمد بشكل شبه كامل على الإلكترونيات، وهذا بالطبع ليس بالأمر الغريب في عصر سادت فيه تلك الأجهزة الذكية التي تكاد لا تفارقنا إلا لدقائق معدودة على مدار الأربع وعشرين ساعة، وحلت هذه الأشكال السوداء والرمادية والملونة الصغيرة والكبيرة والمتوسطة مع حافظاتها البلاستيكية الساترة محل تلك القديمة ذات الحجم الهائل التي تكاد تنقرض مع الغزو الإلكتروني العنيف الذي نشهده اليوم.

قلة هم الناس الذين ما زالوا يستمعون إلى المذياع أو يشاهدون التلفاز إذا ما قورنوا بأولئك الذين أصبحت السماعات تشكل جزءًا من مظهرهم الخارجي.. بل أضحى من النادر أن ترى شخصًا يتجول بدونها، حسنا لا بأس، ولم لا، ما دامت تلك الثقافة تمتد لتصل إلى تسهيل أمور الحياة؛ فقد أصبحت - شئنا أم أبينا-  فضلًا عن كونها أدوات للتسلية واللعب، مصدرًا مساندًا قويًا بل أساسيًا لتلقي العلوم والمعارف.

ففي اليوم الذي يتغيب فيه الأستاذ عن طلابه بوسعه إرسال الدرس لهم وطلب الواجب المتعلق به فضلًا عن تمكنه من الدردشة الدائمة معهم وبطرق ووسائل مختلفة، وهذا الكلام لا يشمل فقط مجال التعليم بل اجتاح كافة المجالات، فأصبحت الأجهزة تختزل المسافات وتقرب الأشخاص من بعضهم البعض أينما كانوا وفي أي وقت كان، وقد يحصلون على وظيفة من خلال مقابلة فيديو عن بعد، وقد يسمعون الأخبار ويتابعون الأحداث ويشاهدون الأفلام القصيرة والمباريات!

ليس هناك أسهل من البحث عن المعلومة أو ضبط التوقيت والساعة والتاريخ وتحويل التقويم بين العام الهجري والعام الميلادي ومعرفة الساعة في أي مكان في العالم تفصلنا عنه آلاف الكيلومترات، وكذلك إجراء الحجوزات في القطارات والطيارات والفنادق على اختلاف تصنيفاتها وأسعارها وخدماتها، ويطول العد والسرد إن أردنا أن نحصي فضل التكنولوجيا على البشرية اليوم.

كل شيء أصبح يتم بضغطة زر أو بلمسة شاشة أو حتى بمطابقة صورة العين أو بتمرير بطاقة ذكية، نعم ذكية، كل شيء أصبح ذكياً، لكن ذلك الذكاء لم يعد طبيعيًا بل حل محله الذكاء الاصطناعي، ولم يعد تشخيص الأمراض يعتمد على حوار الطبيب مع المريض كلما أراد الطبيب، وجهاز التوجيه الذي يكاد يرافق كل سائق اليوم ويبرمج عجلات سياراتنا؛ والكاميرات التي تقيس لنا مسافة البعد عن السيارة التي تفصلنا عنها بضعة أمتار، لم تعد حوادث السير بسبب عدم قياس المسافة الصحيحة بل أصبحت مرتبطة مباشرة بالتكنولوجيا ذاتها، فكم من حادث مروري مؤلم أودى بحياة شبان في مقتبل العمر أو تسبب بأضرار دائمة نتج عنها حالات عجز، نتيجة الانشغال بالهاتف المحمول!

لو تساءلنا عن عمر تلك الثقافة الإلكترونية، كيف يمكن قياسها، وإلى أي مدى تكون ثابتة ومخزنة ومفيدة، وهل ينبغي الاستناد عليها كليًا وهجر كافة الطرق التقليدية لاكتساب الثقافة كقراءة الكتب والبحث في المعاجم الورقية والموسوعات المتخصصة، وما الحد الفاصل بين الثقافة التقليدية والثقافة الإلكترونية، في البيت وفي المدرسة وفي الجامعة وفي العمل، وكيف لنا أن نجد الحد الوسط؟!

لن أسهب في هذه العجالة بتفصيل الأضرار الصحية التي تنجم عن استخدام هذه الأجهزة من أضرار تطال العين أو الرقبة أو العمود الفقري، ولا يغيب عن أذهاننا مصير هذه الأجهزة بعد أن نستبدلها بأخرى أحدث منها طرازًا، هل خطر ببالنا ذات يوم أن نتساءل عما تؤول إليه هذه الأجهزة، ونسعى كل عام إلى عقد المؤتمرات البيئية للبحث عن حلول للتلوث والطاقة!

إن استخدامها بات ضرورة حتمية لا مفر منها، لكن عسانا نتوصل إلى حل وسطي أو نصف وسطي للحد من استخدامها رأفة بالأجيال القادمة، ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه: كيف؟

الإجابة عن هذا السؤال هي عند كل منا، «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته». 

د. رلا صلاحية

كلية اللغات والترجمة

قسم اللغة الفرنسية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA