تَقَصَّى المسألة

 

 

بينما تكون في مركبتك على الطريق السريع متجهًا نحو عملك، بيتك، بيت قريب أو صديق، راكبًا كنت أم قائدًا؛ حتماً سترى جسرًا قائمًا رابطًا ما بين طريقين سريعين متعامدين، آخذًا شكل القوس في انحنائه، والجذع في قوامه، والغصن في انبثاقِه، هو تحفة فنية، وأداة عملية، شكلها الزمان بتوارث الخبرات وتطبيق المعادلات.

ما إن تبدأ مركبتك بالانعطاف فوق ظهره فيبدأ شعورك بقوة طاردة عن مركزه؛ فترفع عينيك عن الطريق لترى لوحة كتب عليها رقم قرأت ضعفه على عدادك! ولكن لماذا «ستين» فما كنت ولا زلت ولن تزال راسيًا ثابتًا مع انعطافك بالرغم من قواه الطاردة!

يغمرك الفضول وتحيطك الأسئلة، فتبدأ بالتحليل والتفكير ساعيًا وراء معرفة كُنه الحقيقة، فما أن تُنهي مشوارك وإلا وبدأت بحثك، لاهثًا تقلب الصفحات، شغوفًا لسد الثغرات، مفكرًا بربط الخبرات، فتنهيه منتصرًا على فضول الذات، فمحظوظ أنت كلما تأخرت الإجابة، فكم من المعلومات ستجني، وكم من مجهول سيجلى، وكم من الخفايا سيظهر.

لم أر أسلوبًا أقوى في التعلم من طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة وربطها بسابق المعرفة، ثلاثة أمور مكملة لبعضها، فلا فائدة من طرح تساؤل دون البحث عن إجابته، وتقل فائدة الجواب بلا رابط؛ فتكون الإجابة نقطة تائهة مشردة عائمة في الدماغ، فامسك بها واحتضنها ولا تجعلها تعوم وحيدةً، واعمل على ربطها بخط مع سابق النقاط الموجود، لِتُكون صورة متكاملة في ذهنك، تمامًا كما كنا نلعب في صغرنا بألعاب التوصيل لتكوين الأشكال.

أعود لأُعيد ما قلت، كم أنت محظوظ إذا تأخرت الإجابة، فالسؤال يصبح أسئلة، والجواب يصبح أجوبة، والنقطة تصبح نقاطًا على هيئة سلسلة.

النفس مجبولة على الفضول فلا تحرمها حقها، ولا ترضى بقشور المعلومة؛ فعقلك أسمى منها، فلا تكفي «كم؟» ولكن «لماذا؟»، فعند ظهور معلومة جديدة أو مراجعة قديمة سل نفسك، لماذا وُجدت؟ ومن أين أتت؟ وكيف طُبقت؟ فالبحث في أصل الأشياء دائمًا ما ينير العقول، ويبسط الأمور، ويسهل الحلول، ولكل شخص منا أسلوبه في البحث، فهناك من يرطب شفتيه بقراءة الكتب، وهناك من يمتع بصره بمشاهدة المقاطع، وهناك من يطرب أذنيه بسماع المدونات الصوتية، فتختلف الطرق ولكن الهدف واحد.

سأكتب عن حسرة في قلبي مما أراه في جامعتي ولعل القارئ يعذرني، في أول أسبوع من كل فصل آتي متحمسًا لمعرفة طبيعة المواد وتطبيقاتها متشوقًا لطريقة شرحها، فأدخل القاعة في اليوم التعريفي وأرى المدرس واقفًا متأهبًا ممسكًا بالكشف يحصي الحضور، فما إن يبدأ بالكلام حتى تنطفئ شعلة حماستي، حيث يبتدئ بالتعريف بنفسه وبالدرجات وطريقة توزيعها وبتشديده على الحضور وختمه بذكره للمذكرات المطلوبة، فأي بداية هذه عندما أخرج من محاضرة اليوم التعريفي ولم أعرف سوى اسم المادة!

فقدنا المعنى الحقيقي للتعليم، أصبحنا نتعلم من أجل الدرجات لا من أجل العلم، ونحضر خوفًا من الحرمان لا شغفًا بالمعرفة، فأسأل نفسي؛ هل المشكلة فينا أم في مدرسينا أم في نظامنا التعليمي؟ 

ولأن التعميم لغة الجهلاء، وجب عليَّ أن أذكر أنني مررت بمعلمين يحملون معنى المعلم، فلم تنطفئ شعلة حماستي معهم بل زادت توهجًا، فتبين لي أن المدرسين كثيرون لكن قليلين هم المعلمون، وكذلك هم الطلاب، فلا تجعلونا نرمي المشكلة على نظامنا التعليمي ونتهمه بالسوء والقِدم قبل أن نراجع أنفسنا.

نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا

وما لزماننا عيبٌ سوانا

ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ

ولو نطق الزمان إذن هجانا

المعلم هو اللبنة الأساسية للتعليم وهو من ينشئ ويربي الأجيال فلا تقتصر وظيفته على نقل المادة العلمية للطالب فقط، بل هو من يبني شخصيته ويرشده في بحثه ويقوده بخبرته، لكن انشغال المدرس عن الطالب لا يشفع للطالب، ولا يعطيه حق التقاعس، فإذ لم تكن محظوظًا مثلي فلا تيأس واستمر في بحثك فستجد معلمًا في نهاية المطاف، وإذا وجدته تشبث به جيدًا.

في النهاية دور المعلم مهم لكنه ليس الأهم، فاعمل على ذاتك بنفسك فثقفها وأشبعها ولا تنسى أن تمتعها، وشارك ما توصلت إليه مع من يستحق المشاركة ولا تكتم معلومة وصلت لها، فنحن في أمس الحاجة لها، لنعود كما كنا في سابق عهدنا.

أحمد عبدالله العوهلي

كلية الهندسة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA