قد لا نكون بحاجة إلى الخوض في مفاهيم التراث وتفاصيله والنقاشات التي أثيرت حوله، ولكننا سنشير باختصار إلى المعنى العام للتراث، والذي يشمل كافة الأفكار والفنون والإبداعات والمعالم والصروح المشيدة، وما تتضمنه عادات الناس ومعتقداتهم وطقوسهم وطريقة معيشتهم، وكل ما توارثوه عبر الأجيال من جوانب مادية ومعنوية، علاوةً على اعتباره –أي التراث- ركيزة أساسية من ركائز الهوية الثقافية والذّاكرة الحيّة للفرد والمجتمع.
وقبل أن نُفصِّل القول في العلاقة الجدلية بين التراث والتنمية، ينبغي أن نتفق على كثير من الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تعيشها كثير من المجتمعات، رغم الإمكانات الهائلة التي تمتلكها، على أن ثمة عوائق تحول دون تفعيل مواردها واستغلال إمكانياتها من أجل تجاوز تلك المشكلات.
إن مقاربة دقيقة وعلمية للاختلالات والمشاكل التي تعيشها بعض المجتمعات، تقتضي منا التفكير جدياً في الموارد التراثية، ووضع سياسة شمولية لصيانتها وتوظيفها في سياق تنمية شاملة ومستمرة تتجاوز مختلف العوائق، وتعمل على التوفيق بين الحفاظ على التنوع الثقافي ومتطلبات التحديث.
والافتراض الذي يقضي بعلاقة المجتمع بالتراث، وعلاقة التراث بالتنمية يجعلنا أكثر حماساً لاتخاذ مواقف إيجابية تُفضي إلى إدماج التراث، وجعله أحد المحركات التي تتفاعل مع التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المحلية، وتجاوز كل التحديات التي تشكل عوائق حقيقية في طريق استثماره وتنميته باعتباره أداة فعالة في العملية التنموية برمتها.
في هذا السياق، يصبح ربط التراث الثقافي بالتنمية المستدامة ربطاً موفقاً، ذلك أن التراث يفتح آفاقاً مرتبطة بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية أيضًا، وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص عبر إقامة مشروعات تراثية إنتاجية مدرة للأرباح، وفي نفس الوقت الذي نشير فيه إلى إسهام التراث في عملية التنمية فإنه ينبغي اتخاذ الإجراءات الصحيحة التي تضمن استدامة هذا التراث حتى لا تتحول خطط التنمية إلى نوع من العبث والمجازفة غير المأمونة.
إن مما يُكسِب التراث أهمية كبيرة، أنه أصبح جزءًا لا يتجزأ من العمل السياحي، حيث أصبح مطلباً أساسيًا للسياحة بكافة أشكاله ومظاهره، والذي ينتظر جهوداً جادة لإبرازه وإحيائه وتطويره وإعادة تمثيله على مسرح الحياة الحديثة؛ للقيام بدوره البارز في دعم الحركة السياحية. لهذا تزايد الاهتمام به وتوضحت آفاقه وأساليب تمكينه وإدماج مكوناته في التنمية في إطار خطة شاملة، مع ضرورة التنسيق بين كافة الأطراف المعنية، وهذا كله، ينبغي أن يكون في سياق التأكيد على مفهوم المحافظة على التراث، والانتقال به من مجرد التدخل التقني المتخصص والمباشر في المباني التاريخية والمواقع التراثية وإعادة بنائها، إلى اعتماد سياسة تنموية شاملة وتشاركية في تنمية التراث.
خلاصة القول، إن للتراث علاقة جدلية ومركبة مع التنمية، إذ أصبح التراث في الوقت الراهن يتجاوز النظرة التحنيطية التي سادت في الماضي ومكانته الشكلية والرمزية، ليتبوأ موقعاً مميزاً كعامل مهم من عوامل التنمية بمختلف أبعادها، وجزءًا أساسياً في التنمية الشاملة، إذ لا يمكن لأي تخطيط مستقبلي في مجال التنمية أن ينجح في غياب النظرة الحقيقية للموارد التراثية التي أصبحت – اليوم- تساهم بشكل كبير في الرفع من مستوى الأفراد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لاسيما إذا ما تم الاهتمام بالتراث بالشكل المطلوب، واستغلاله على الوجه الأمثل. وهكذا أصبح موضوع المحافظة على التراث الثقافي من القضايا الملحة التي تسترعي اهتمام الحكومات والشعوب وكافة أفراد المجتمع، ودمتم طيبين.
د. ياسر هاشم الهياجي
كلية السياحة والآثار
إضافة تعليق جديد