لعل أبرز التحديات التي تواجه القيادات المسؤولة على إدارة الشأن العمراني في المدن والأمانات والبلديات هي تحديد الأولويات، هل الأولوية للأمور الاستراتيجية وللتفكير في القضايا طويلة المدى أم للأمور الاستعجالية ومعالجة الأزمات الآنية قصيرة المدى؟
فإن وَجَّهت هذه القيادات اهتماماتها للأمور المستعجلة صَرفتها عن القضايا الاستراتيجية لتنمية المدينة على المدى البعيد واستنفذت طاقاتها الفكرية والبشرية في اتخاذ القرارات الفورية لمعالجة الأزمات اللحظية التي لا تنتهي، فمَثَلُها هنا كمثل من يصرف جل وقته في ترقيع الحُفر الموجودة في بداية الطريق فتُلهيه عن التفكير في قَطع المسافة الطويلة ليبلغ الهدف الأسمى المنشود.
لكن قد يكون عزاء هذه القيادات أنها معينة لفترة محدودة من 4 إلى 5 سنوات، وبالتالي فليس أمامها من الوقت ما يكفي لأن تشغل بالها بالاستراتيجيات التنموية بعيدة المدى التي لن ترى النور خلال عهدتها، وبالتالي فمن الأحسن لها أن تقوم بعمل يُحسب لها خلال فترة قيادتها. فتجد نفسها وفق هذا المنطق مضطرة لتركيز انشغالها بالأزمات الآنية والقضايا المستعجلة في المدينة، لكن لهذا النمط من الإدارة وفق منطق ردات الفعل لما هو مستعجل وقصير المدى ثمن على التنمية العمرانية على المدى المتوسط والبعيد، وقد يكلف مجتمع المدينة الشيء الكثير من هدر للفرص وغياب للرؤية المستقبلية.
في زمن العولمة والتغيرات السريعة التي تعيشها المدن أصبح من غير المناسب الاكتفاء بالتركيز على الأزمات الآنية والحالات الاستعجالية، بل صارت هناك ضرورة ملحة لتبني التفكير الاستراتيجي طويل المدى الذي يستشرف قضايا المستقبل ويستبقها بوضع الأساليب الناجعة لمواجهتها بدلاً من الاقتصار على صرف الجهد والوقت في إدارة الأزمات الآنية.
يعتمد التفكير الاستراتيجي على التفكير بطريقة إبداعية ومبتكرة لتحديد التحديات المستقبلية ومعرفة الفرص المتاحة واستجلاء التهديدات المحتملة والتفكير في أنجع الأساليب والخطط لتحقيق التنمية مع تعظيم الاستفادة من الفرص وتقليل المعوقات والمخاطر الكامنة في المهددات، ولعل أول خطوة على طريق التفكير الاستراتيجي هي صياغة رؤية vision متفق عليها وأهداف استراتيجية واضحة. كما يتسم التفكير الاستراتيجي بكونه يعتمد أساساً على المدى الطويل والتصور الإبداعي لما ينبغي أن يكون عليه مستقبل المدينة وتنميتها فيحدد الفرص المتاحة والمهددات الكامنة.
أما التفكير الاستعجالي فيهتم بالمدى القصير وحلول المشاكل القائمة ويتسم بكونه تفكيراً تشغيلياً يعتمد على معالجة الأزمات والقضايا الفورية الطارئة والعمل على الأهداف قصيرة الأمد.
أما من حيث النتائج والتأثير على التنمية العمرانية فإن القيادات التي يطبع تفكيرها ضيق الأفق ومحدودية الرؤية غالباً ما يكون الفشل مصيرها فتتفاقم أوضاع المدينة وتكثر أزماتها. أما تلك القيادات الإدارية التي تضع الاستراتيجيات بعيدة المدى ذات الرؤية المحددة والأهداف الواضحة فهي كفيلة بتحقيق نجاحات في مسار التنمية العمرانية وفي غيرها.
وللتوفيق بين الانشغال بالاستعجالي والاهتمام بالاستراتيجي، يمكن ترك الأمور المستعجلة للقيادات الدنيا لتتفرغ لها أما القيادات العليا فلا مندوحة لها من قصر اهتمامها على صياغة الاستراتيجيات التنموية على المدى الطويل وأن تتحلى بسعة الأفق في تفكيرها وتعدد الأبعاد في معالجة قضايا مدينتها.
أ. د. طاهر بن عبدالحميد لدرع
أستاذ التخطيط والتصميم العمراني
إضافة تعليق جديد