في الوقت الذي أرجو أن يكون هذا المقال النداء الأخير للمعنيين بالتعليم العالي، أرجو بذات القدر أن يُقرأ هذا المقال بموضوعية، مؤملاً أن يكون للنداء صدى إيجابي في تطوير مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة.
تأكيدًا لما بيَّنه وزير التعليم في مؤتمر التعليم قبل أسبوع، أرجو أن تعي الإدارات في الجامعات السعودية الرسالة، فقبل أكثر من عشرين سنة كتبت مقالاً في هذه الصحيفة بعنوان قريب من هذا «كيف تكون الجامعة منتجة»، وتحدثت باستشراف عما يمكن أن تكون جامعاتنا عليه أو يجب أن تكون عليه، بعد أن استثارني وراعني منظر الأراضي الفضاء حول الجامعة، وكيف مثلاً يمكن استثمار هذه المواقع لصالح الجامعة.
بعد عشرين سنة لم نصحُ بسبب هذا المقال أو غيره، وإنما جاءنا التوجيه من خارج الجامعة لعمل شيء بعد تقرير التصنيفات الشهير، ولو كنت مسؤولاً لتلمست كل ما يكتب حول المؤسسة التي أديرها باعتبارها وسيلة للتغذية الراجعة التي لا غنى عنها في مسيرة التطوير.
ماذا جرى بعد ذلك؟ حدث تحرك في كل الاتجاهات وكأننا في صراع، لا مع التطوير بل مع التصنيف، ولن أزيد كلمة في ذلك، لكن الأهم من منظور كل قسم أكاديمي، ماذا تغير في القسم؟ لا شيء، للأسف.
عندما بدأت هذه الحركة «البهلوانية»، كتبت مقالاً حول بعض الأحلام والأمنيات – امتدادًا لكثرة الحديث آنذاك عن الأحلام - فذكرت مثلاً، أنني أتمنى أن أرى اليوم الذي أدخل لكليتي من بين غصون الشجر بدلاً من كآبة المنظر «حصى الخرسانة المنتشرة هنا وهناك».
وللحق، فقد تغير المشهد وأصبحت أمر بين جنبات الشجر والتصميم المريح فعلاً للنظر، وأصبحت أرى من نافذة قسمي الأكاديمي اللون الأخضر وتمايل أغصان الشجر، لكن جسمي ما زال داخل القسم الذي لم تتورد خدوده وعظامه من التطوير بعد.
اجتهد قسمي - وكل قسم على ما أظن - في العمل حيال التطوير والتعديل هنا أو هناك بنفس الطريقة السابقة، لكن لم يتطور القسم وفقًا لمعايير وأهداف التطوير الاستراتيجي، فورقيًا قد يكون كذلك من خلال نماذج الجودة، لكن واقعيًا لم يتغير شيء.
كنا نطمح أن يتوطن البحث العلمي في الأقسام الأكاديمية من خلال آليات عديدة لتواكب على الأقل ما كتب في الخطة الاستراتيجية التي لا نعلم أين هي، لكن لم يتم ولا ندري متى يتم، بل زادت البيروقراطية إلى درجة الاختناق.
أما الجودة فإني أكاد أجزم أنها غير مطبقة إلا في بعض الكليات التي فيها لجان عاملة وتراقب بدقة سير العملية التعليمية، والدعم المالي أكبر، أما بقية الأقسام فليس هناك إلا نماذج، الجودة جسد وروح وآليات، وأي رئيس وحدة أو قسم ليس لديه إمكانية لفهمها فلا يجب أن يباشر هذه المسؤولية، لكن هل يلام هو وحده على ذلك؟ عليه لوم، ويسجل عليه اللوم حتى لو لم يكن هو الوحيد المسؤول.
ما يعني أنه إذا أردنا أن نوطن الجودة فلا يجب أن نستمر في التنظير مثل «الجودة ثقافة» والجودة كذا وكذا، وكأننا جنس من البشر غير قابل للتطور، بل قرارات وصلاحيات ومساءلة –مثلنا مثل أي جامعة أو مؤسسة ملتزمة بالإنجاز والمساءلة والتقدير.
أين الدراسات التي تمت لتحديد موطن الخلل في تطبيق الجودة؟ وإذا وجدت دراسة، فأين الشفافية في الطرح والالتقاء دوريًا مع أساتذة الجامعات وطلبتها وموظفيها لطرح المشكلات ومناقشتها.
إلى الآن لا توطين للبحث العلمي ولا توطين للجودة. وقد يقول قائل: ها هي الفعاليات والاتفاقات والمؤتمرات، وأقول: نعم، وما هي إلا روتين متوقع أداؤه، لكن الأهم هو النواة لأي جامعة: القسم الأكاديمي؛ فإذا عاشت البذرة عاشت الشجرة، والعكس صحيح، ولو فعلنا ألف نشاط ومؤتمر دون تحقيق تطوير وتوطين حقيقي في الجودة والبحث العلمي في القسم الأكاديمي فلن تتطور أي جامعة مهما كان حجمها وتاريخها.
تخيل مثلاً لو صارحنا الإداري وقال لنا: أعلم إخواني وزملائي وزميلاتي أن هممكم عالية وتريدون كذا وكذا، لكن وضعنا كذا وكذا، وعلينا العمل والتشاور والإنجاز، ولكم منا في الإدارة كذا وكذا.
فلا أظن مطلقًا أن مثل هذا الكلام «الدعم المعنوي» سيذهب هباءً منثورًا، بل سيثير ويحفز أهم عامل مطلوب في بيئة عمل أي مؤسسة ألا وهو الانتماء والشعور أكثر بالمسؤولية، وليس أسوأ شيء في بيئة العمل من الشعور بالإحباط وعدم التقدير والدعم.
ويبقى السؤال: كيف يمكن التقدم الآن في موضوع استقلال الجامعات، وحالتنا مثل هذه التي بينت ونعرفها معرفة أنفسنا؟!
أخيرًا في هذه العجالة، هل يجب عليّ نشر هذا المقال في صحيفة عامة مشهورة لإيصال رسالتي هذه التي بالتأكيد ليست لي وحدي؟ هل يجب أن أكون مشهورًا حتى يلتفت إلى ما أكتب وكتبت طيلة العشرين سنة الماضية؟!
مع ذلك، لعل هذا يكون آخر مقال حول هذه القضايا، وبذلك تكون وتيرة تطور التعليم وضبط جودته والبحث العلمي في الأقسام الأكاديمية ليست بأقل من وتيرة زراعتنا ورعايتنا للأشجار. هذا والله من وراء القصد.
أ. د. علي بن معاضه الغامدي
إضافة تعليق جديد