الرحلة الأخيرة

 

 

تخيّل معي أيها القارئ لحظات، وأنت ذاهب خلف إحدى الجنازات، وذلك النعش الماثل أمامك، تخيل تلك التهليلات والتكبيرات والدعوات المتتاليات وتلك التعازي التي لا تقف باختلاف عباراتها وطرقها، صدقها ونافقها.

تخيل معي وجوهاً يملأها الحزن، ووجوهاً شاردة، وأخرى مكلومة صامتة، تخيل تلك الدموع التي تنهال من أقارب وأحباب المتوفي، تخيل معي عندما وصلتم لذلك القبر، لحظات من الفزع ينتابك لكنه يزداد ضراوة عند إغلاق القبر لترى الناس كيف تتسارع بالذهاب بعيداً تاركين ميتهم!

قد يبقى قرب القبر أحدهم يبكي، وآخر حزين، وآخر هناك لا يبالي، وفي داخل القبر أحدهم رضي الله عنه يقول: ربي الله، ديني الإسلام، نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر غضب الله عليه يقول: هاه هاه لا أدري!!! يا لها من لحظة فارقة!! لا جدال فيها ولا توافق، لا مسؤول ولا غفير، إما أبيض وإما أسود، لا مكان للون الرمادي هنا!

في الأعلى مازال البعض يُحكمون إغلاق القبر بالطين والتراب وأغصان الأشجار وكأنهم يخشون خروجه، وبعضهم تراه منهمكاً على جواله وكأنه يدير الدنيا لم يتعظ بعد من هذا الموقف، كيف أبغضهم!

وفي داخل القبر أحدهم يقول: ربِّ أقمْ الساعة، وأحدهم ينادي: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، وآخر يتعهد ببذل الصدقات، وفي حياته كان حصرياً على الريالات، وفي الأعلى أحدهم يتأفف من ذلك التراب، يخاف أن توسخ ثيابه وكل لحظة تراه يمسح يده بحنية بأنامله الناعمة، وهم القلّة مع أن الغالبية يتفرجون وينظرون فقط، وبعضهم أرهقتهم حرارة الشمس، وقد مَلُّوا من طول الدعاء وتلك الرياح العابرة وبعض الازدحام، تراه ينظر لساعته في كل لحظة وكأنه ينتظر موعداً هاماً!

ولا تكادُ تمضي ساعة إلا وقد فرغ المكان وساد السكون، وخيم الصمت ورحل الزوار والأحباب والأقارب والأصحاب، وفي الداخل ضجيج لو سُمع لهزّ الأرض من أقصاها إلى أقصاها، أحدهم يُنعّم ويرى مقعده من الجنة، وآخر يصرخ من ضيق المكان وظلمته ومن الهول والفزع.

في الأعلى ناس في الغالب قد انتقلوا من قصر مُكيف بارد، لجامع مُكيف، بسيارة فارهة مكيفة، ولكنهم الآن يتعجلون الرحيل من الحرّ والضجر وكآبة المنظر ومن لفحات الشمس الباردة، وفي داخل القبر ذلك المدفون يسمع قرع نعالهم وهم يغادرون، أحدهم في سعة ولطف ورحمة، وآخر في ضيق وحرٍّ ونكد ونقمة.

وختاماً، نقلت لكم قصة واقعية تتكرر كل يوم، تصورت المشهد وصورته لكم من المؤكد أن تختلف الأماكن والحيثيات، لكن النهاية واحدة، تأكدوا أنها واحدة، والسؤال الذي أطرحه دوماً أفي النعيم المقيم سنحيا، أم في العذاب سنشقى؟

لا نجاة من الموت، وقبل الفوت، اللهم إنا عبادك مذنبون ومقصرون، فيا ربّ اعفُ عنا وجد علينا برحمتك وكرمك وجنتك بالفردوس الأعلى، اللهم إني أسألك حُسن الخاتمة، اللهم ارزقني توبةً نصوحاً قبل الموت، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا ربّ العالمين يا أرحم الراحمين.

 

فيصل بن أحمد الشميري

طالب دكتوراه – كلية علوم الأغذية والزراعة

agrfaisal@gmail.com

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA