المعايير الأساسية لتقييم الاقتصاد المعرفي

 

 

تحدثت في مقال سابق بعنوان «الاقتصاد المعرفي الواقع والطموح» عن تغير الأسس القديمة في تصنيف الموارد في ظل الاقتصاد المعرفي الجديد من «أرض، رأس مال، عمالة» إلى «معرفة علمية، ذكاء اصطناعي، محاكاة، معلومات وإبداع»، وبينت فيه نمو اقتصاد المعرفة بمعدلات كبيرة تقدر بـ 10٪ سنوياً.

وأقول اليوم إن الوطن العربي هو الأقل إنفاقًا بين دول العالم على الأبحاث والتطوير، كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، والأقل في عدد الباحثين نسبة لعدد السكان حيث بلغ عدد الباحثين عام 2018 بالأخص الباحثين في القطاع الحكومي عموماً مع الكادر الـمُساعد، 150 ألفاً، في حين لم يتجاوز عدد الباحثين الـمُتخصصين 50 ألفاً بمعدل 142 باحثاً لكل مليون فرد، بنسبة 0.014% من عدد السكان، في حين أن كوريا الجنوبية التي يبلغ عدد سكانها 52 مليوناً بلغ عدد الباحثين فيها 325 ألفاً بنسبة 0.625% طبقًا لبيانات معهد الإحصاءات التابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة.

من المعايير الأساسية لتقييم اقتصاديات المعرفة للدول الأكثر ابتكارًا وإنتاجًا، حسب توصيات المنتدى الاقتصادي العالمي، مقدار الحجم والإنفاق على البحوث العلمية والتطوير والجودة، ومقدار المساهمة في عدد براءات الاختراع على المستويين المحلي والعالمي، وكفاءة التعليم العالي ومخرجاته ومدى مطابقتها لاحتياجات سوق العمل، وخدمة المجتمع، والإضافات الجديدة للبحوث في العمليات التصنيعية بشتى المجالات، إضافة لمقدار الإنتاجية وجودتها، وكثافة التكنولوجيا الرقمية وكفاءتها، وعدد الأبحاث المرتكزة على تحسين شيء ما وتخصص معين وماذا أنجزت.

وبصورة عامة يظل معدل قياس اقتصاد المعرفة مبنياً على البيانات الإحصائية والمسحية وحجم القوى العاملة فيه والإنتاجية الفعلية وطريقة نمو الاقتصاد المعرفي، وللأسف فإن معظم تلك المتطلبات مُقيدة بعض الشيء عالميًّا، وفي الوطن العربي خصوصًا، وتختلف درجة التقييد من قُطر لآخر.

عندما تجتمع البيانات الحقيقية والقواعد العلمية والمعرفة المنتجة والعقول الدارسة؛ نستطيع القول إن لدينا اقتصاداً مبنياً على المعرفة، ليسهل علينا مقارنته بالموارد الأخرى كالطبيعية، إلا أننا نستطيع أن نقارن بشكل مبدئي، فمثلًا نستطيع أن نقارن أحد الموارد الطبيعية المتوافرة في الخليج العربي، وهي النفط فكم سعر البرميل اليوم تقريبًا، بحدود 55 دولارًا، لـــ 200 لتر نفط خام، يحتوي بشكل تقريبي على 70 لتر بنزينًا، 32 ديزلًا، 15 كيروسينًا، 42 مواد أخرى، تقريبًا بوزن 142 كيلوجرامًا، ولو قارناه بـشكل سطحي بمنتج معرفي كــ «آي فون 12» فسعره 900 دولار ووزنه 194جراماً تقريبًا، سعر منتج معرفي واحد «آي فون 12» يعادل سعر أكثر من 16 وثلث برميل نفط خام، وأن برميل واحد يزن 732 جهاز «آي فون 12».

تظل مشكلة التمويل وضعف السياسات البحثية المطروحة وقلة الإنفاق على البحث العلمي وضعف الاهتمام بالعلماء وبالكوادر البحثية، وعدم الإيمان بأهمية البحث والمراكز البحثية والجامعات من صُنَّاع القرار بالإضافة لضعف التعاون البيني بين المراكز البحثية على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية؛ تظل معضلة قائمة!

يجب على واضعي السياسات في الدول العربية دعم البحوث بشكل سخي وبموارد مستدامة لا تخضع للظروف والمحاصصة، لتكون البحوث غاية لكل جامعة ومركز ومنظمة بحثية في ربوع الوطن العربي الكبير، وتشجيع القطاع الخاص وتوجيه الباحثين في أي مجال إلى النظر إلى مدى أهمية البحوث من الناحية المعرفية والاقتصادية ومدى مساهمتها الحالية في خدمة البشرية عمومًا والمجتمع خصوصًا، وكذلك تفعيل الابتعاث للباحثين للتعليم والتدريب والـتأهيل والتبادل الثقافي، وتوفير المواد والمعدات والأجهزة اللازمة، واعتماد التحفيز المادي والمعنوي والبعد عن الروتين الإداري الممل في المسائل البحثية، وعمل موازنة عددية مقبولة فعلية لعدد الطاقم الإداري المساعد طبقاً لعدد الباحثين، وفتح المجالات أمامهم بحرية، والبحث عن أفكار جديدة من واقعنا ومشاكلنا، والابتداء من حيث انتهى الآخرون.

كذلك يجب الاهتمام بتكنولوجيا المعلومات، وتجميع وتخزين البحوث العلمية المنشورة، والكتب والمجلات في محركات بحث محلية «بنوك معلومات» لتكون متاحة للجميع ومُحدَّثة لمواجهة أي صعوبة في الربط، وعند غياب الشبكات وفي الاضطرابات وعند أي ظروف قاهرة، فعلى الأقل تجمع البحوث المنشورة في جميع قوالب البحث العلمي، كما يجب البحث في مجالات الطاقة المتجددة ودعمها، وتفعيل الصناعات التحويلية، خاصةً تكرير النفط محليًّا، وعدم التصدير إلا للمنتجات النهائية عالية وغالية الثمن، والتوجه نحو الطاقة النووية واستخداماتها المختلفة في شتى المجالات الصحية والزراعية والبيئة والعسكرية عمومًا، والتوجه نحن تنشيط البحوث في تقنيات النانو في جميع المجالات أيضًا.

ويجب أن يكون على رأس أوليات الدول العربية تحقيق الأمن الغذائي وتوفير الغذاء عن طريق تدعيم الإنتاج الزراعي، والنباتي والحيواني والسمكي، ورفع الإنتاجية مع الحفاظ على سلامة المنتجات، في وطننا العربي نحتاج لأنصار العلوم والبحث والتكنولوجيا في المناصب القيادية، نحن بحاجة ماسة إلى سياسيين يعشقون البحث ليبثوا عشقهم ودعمهم وجعل البحوث على رأس أوليات مهامهم، لتحفيز الساحة العلمية والبحثية والابتعاد عن الساحات الأخرى المرهقة، حتى نستطيع أن نتغير تغيُّرًا إيجابيًّا إنتاجيًّا معرفيًّا تتطلع له شعوبنا ونضمن به مستقبل أبنائنا.

 

فيصل بن أحمد الشميري

طالب دكتوراه كلية علوم الأغذية والزراعة

agrfaisal@gmail.com

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA