مرتكزات حوكمية في ظل استقلال الجامعات ونظامها الجديد

توج الأمر السامي الكريم جامعتنا الرائدة بالاستقلال، وكما أشار معالي رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور بدران بن عبدالرحمن العمر في مداخلته على قناة الإخبارية أن استقلال جامعة الملك سعود لم يأتِ ضمن الجامعات التي بدأ بها استقلال الجامعات في المملكة فحسب، بل «على رأس» الجامعات الثلاث التي بدأ بها التطبيق التدريجي لنظام الجامعات الجديد، وبدأت بذلك مرحلة تاريخية جديدة للجامعات في المملكة تقودها جامعة الملك سعود بريادتها ومقوماتها وتنوعها في مصادر الدخل وبنيتها التحتية.
هذا القرار التاريخي يحتم على الجامعات -وعلى رأسها جامعة الملك سعود- دراسة مدى ملاءمة اللوائح والقواعد التنفيذية الحاكمة لإجراءاتها وسياستها وهيكلتها، وكذلك «ماجرى عليه العمل» من أعراف إدارية يرقى بعضها إلى درجة الإلزام القانوني، والتواصل الفعال مع المجالس الرئيسة وعلى رأسها مجلس شؤون الجامعات ومجلس الأمناء في هذا الخصوص. ذلك أن العديد من القواعد القانونية المكتوبة والأعراف الإدارية الحاكمة نشأت في ظل النظام السابق حينما كانت الجامعة تتبع إدارياً وتنظيمياً للإدارة المركزية «وزارة التعليم».
من هنا ينطلق الأساس القانوني لفكرة هذه المقالة من المادة الأولى من نظام الجامعات الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/27 وتاريخ 1441/03/02هـ والذي عرف مجلس شؤون الجامعات تعريفاً وظيفياً بأنه «السلطة المختصة بتنظيم شؤون الجامعات ورسم سياساتها ووضع اللوائح المنظمة لها، وفق أحكام النظام».
كما تبني هذه المقالة أساسها القانوني أيضاً من المادة الثالثة عشرة والتي ناطت بمجلس أمناء الجامعة في فقرتها الثالثة «حوكمة الجامعة، والتأكد من تحقق رؤية الجامعة ورسالتها وأهدافها» ثم تلا ذلك مباشرة في الفقرة الرابعة «إقرار القواعد التنفيذية للوائح المالية والإدارية للجامعة»، في إشارة تشريعية واضحة إلى العلاقة غير المنفكة بين حوكمة الجامعة والتشريعات الداخلية للجامعة.
يأتي ذلك في إطار التحول التاريخي المتزامن مع حوكمة الجامعات في ظل رؤية 2030، وبالتحديد ركيزة الاقتصاد المزدهر والذي يخلق تعليماً يسهم في دعم عجلة الاقتصاد، وهذا الانتقال المتسق مع العديد من التجارب الدولية -كما سيأتي- يمثل نقلةً نوعيةً من إدارة النخبة «إدارة الأكاديميين التقليدية» «The elite» والتي ارتكز القرار فيها تاريخياً وبشكل حصري في العديد من جامعات العالم على رؤى أعضاء هيئة التدريس، ثم دخل بعد ذلك تدريجياً صوت الطلبة والدارسين عبر المجالس والجمعيات الطلابية ونحوها، إلى إدارة سوق العمل أو السوق «The market»، والمقصود بذلك تطعيم إدارة النخبة للجامعات بأصوات ورؤى وأفكار من سوق العمل لجعل المخرجات التعليمية والأكاديمية أقرب للاحتياجات الواقعية والعملية في السوق، كل ذلك في ظل استقلال منضبط للجامعات.
وكما أشرنا سابقاً، يتسق ذلك مع الاتجاهات العالمية والتجارب الدولية في هذا الصدد، حيث يقول البروفيسور الباحث والمهتم في مواضيع حوكمة «مؤسسات المعرفة» البروفيسور جيرارد ديلانتي في ورقته العلمية المنشورة عن حوكمة الجامعات ودورها في مجتمع المعرفة
“in return for academic autonomy, the University would supply useful knowledge” « أن استقلال الجامعات في ظل الحوكمة يكون مقابل تزويدها للمعرفة والعلم النافع» وهو مايجعل الجامعات أقرب لسوق العمل واحتياجات الوطن.
ومن هنا يأتي نظام الجامعات الجديد ليؤكد هذا الجانب من خلال إحلال صوت السوق “market voice” في عملية حوكمة صنع القرار الإداري الجامعي؛ يعكس ذلك بوضوح ماورد -على سبيل المثال- في الفقرة الثانية من المادة الثانية عشرة والمتعلقة بتكوين مجلس أمناء الجامعات والذين من ضمنهم «ثلاثة أعضاء من القطاع الخاص من ذوي الخبرة والكفاية والاختصاص في المجال المالي والاستثماري والنظامي».
أما على النطاق الداخلي والهيكلي للجامعات، فثمة جوانب رئيسة تتعلق بهيكلة الجامعة داخلياً يجب أخذها بالاعتبار متماشيةً من التأسيس القانوني المذكور أعلاه، ومن أهم هذه الجوانب ما يتعلق بالتمثيل الداخلي في دوائر صنع القرار داخل الجامعة وفيما يدخل -على سبيل المثال- في نطاق ما أوردته المادة السادسة عشرة من نظام الجامعات الجديد، والمقصود التأكيد على ضرورة تنويع التمثيل الأكاديمي في ماورد -مثلاً- في الفقرة الأولى والثالثة من ذات المادة السادسة عشرة.
يؤكد ذلك ما وصلت إليه العديد من دوائر المناقشات العلمية والمقالات الأكاديمية، ومن ذلك ما أكدته الدراسة التي قام بها الباحثان «إنورما بروفيت» و«توماس إسترمان» والتي ناقشت أكثر من عشرين نظاماً من أنظمة التعليم العالي والجامعات الأوروبية؛ مؤكدةً أهمية توزيع التمثيل لمكونات الجامعة وتخصصاتها، سيما التي تُظهر الأرقام والإحصاءات الجامعية إقبال الدارسين عليها وحاجة السوق إليها.
هذا التنويع الأكاديمي في التمثيل للمكونات والتخصصات يعتبر أحد محددات شكل وجودة الحوكمة داخل الجامعات، وكان مما وصلت إليه الدراسة أن عدداً من الجامعات في الدول المتقدمة ومن ضمنها أستراليا سعت إلى توسيع دائرة التمثيل داخل الجامعات من خلال سعيها لذلك «to foster the representation of different groups specialisations». يأتي ذلك متسقاً مع ما صدر في نظام الجامعات الجديد من توسيع دائرة التمثيل في مجالس الجامعات الثلاث.
يعد هذا التنوع معياراً شكلياً من الناحية القانونية لجودة الحوكمة في الجامعات، ويبدو أن هذا البُعد -من الناحية العملية والواقعية- قد فات على بعض جامعاتنا الرائدة في المملكة؛ يبدو ذلك جلياً من خلال قصر التركيز في دوائر صنع القرار الجامعي، من وكالات وعمادات عليا، في بعض الجامعات على الكفاءات الوطنية من الكليات العلمية أو التطبيقية «applied science» والصحية أكثر من غيرها، ولاشك أن هذه الكفاءات الرائدة والعظيمة قدمت وتقدم خدمات جليلة للجامعات الوطنية تستحق الشكر والإشادة.
إلا أن ذلك ليس على الوجه الأمثل والأكمل إذا ما أردنا النظر بشمولية الحوكمة، والتي تجمع بين الجوانب الموضوعية والشكلية ومن أهمها -كما أشرنا- توزيع قاعدة التمثيل في دوائر صنع القرار الإداري داخل الجامعات.
وأخيراً، نحمد الله على ما منَّ علينا به من وطن عظيم وقيادة حكيمة، ونستبشر بنجاحات متتالية لجامعاتنا الوطنية وعلى رأسها جامعتنا السباقة «جامعة الملك سعود» في ظل نظام الجامعات الجديد والذي جاء بالحوكمة والاستقلال المنضبط، ونتطلع بتفاؤلٍ كبير لما سيتحقق قريباً - بإذن الله - على مستوى الوطن والجامعات ككل وعلى مستوى جامعتنا على وجه الخصوص في تحقيق الأهداف المرجوة.
والشكر لجامعة الملك سعود، هذا الصرح الولّاد الذي مافتئ يصنع قيادات وطنية عظيمة تقود المؤسسات الأكاديمية وكذلك في القطاعين العام والخاص.
د. محمد بن عبدالحميد العُمري
متخصص في حوكمة القطاع العام
رئيس قسم القانون العام
كلية الحقوق والعلوم السياسية
malomari@ksu.edu.sa

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA