الحياة العسكرية تعني الحزم والانضباط والعقاب والصرامة في إعطاء الأوامر وفي تنفيذها دون جدال أو مناقشة أو تقديم تفسيرات أو مبررات للقرارات، والعسكري الأعلى رتبة هو غالباً المرجعية الوحيدة للرتب الأدنى، والتي تقع ضمن وحدته العسكرية.
هذه الصرامة والحزم، وهذا الانضباط العسكري مفهوم، وهو من مقتضيات الحياة العسكرية لبناء شخصية الجندي ليكون مؤهلاً ولائقاً للوفاء بمتطلبات واحتياجات الحياة العسكرية للدخول إلى مناطق الصراع والنزاع والتعايش معها.
على الجانب الآخر، الحياة الأكاديمية تهتم ببناء شخصية الطالب أكاديمياً وإمدادها بالمعارف والعلوم والمهارات، مع احتفاظ هذه الحياة بقدر من المرونة التي تسمح بمساحة من الاحترام والحوار والنقاشات وتقديم التفسيرات والمبررات لبعض القرارات التي لا يفهم مغزاها الطلاب أو يدركوا أبعادها، وهذا بالتالي ينعكس على شخصية الطالب إيجابياً نحو تأهيله أكاديمياً ومهارياً لسوق العمل.
المشكلة تكمن عندما يفشل عضو هيئة التدريس في فهم طبيعة النظام الأكاديمي وأبجدياته، وتعويض هذا الفشل بإحلال النظام العسكري في إدارة العملية الأكاديمية، فتتحول القاعات الدراسية وكأنها ثكنات عسكرية حيث الصرامة والحزم وإعطاء الأوامر ومنع النقاشات وعدم تقديم المبررات المنطقية لبعض القرارات التي يتخذها هذا العضو أو ذاك وتمس صلاحيات الطلاب وحقوقهم المعنوية والأدبية.
إن أسوأ ما يقدمه عضو هيئة التدريس هو خلق بيئة توتر في العملية التعليمية، ونشر للطاقة السلبية، وفرض صرامة غير مبررة، وتحميل الطلاب أعباء دراسية غير منطقية تؤثر على سير أدائهم في مواد أخرى قد تكون لها الأولوية بحكم التخصص وحجم المادة وعدد الساعات، إذ ليس من المنطقي أن تتحول مادة أكاديمية «على أهميتها بالتأكيد» لصداع مزمن للطلاب، وأن تحتل مساحة كبيرة من أوقاتهم وأن تفتك بأعصابهم وهي مجرد مادة اختيارية تقدم ثقافة عامة تضفي تكاملاً للعملية التعليمية والتربوية.
الصرامة لا تعني قوة الشخصية، والعقاب لا يفرض بالضرورة الانضباط، ورفع مستوى الأعباء الدراسية لن يرفع من أهمية المادة، فالطالب يحجز مساحة للأستاذ في ذاكرته أكبر من المساحة المخصصة للمادة، وهذه المساحة قد تكون بستاناً مزهراً وحديقة غنّاء تنبعث منها روائح عطرة كلما ذُكر هذا الأستاذ، أو قد تكون أرضاً جرداء وصحراء موحشة حين يطري على الخاطر ذكراه.
يخبرني أحد الطلاب كيف أن أستاذ إحدى المواد يصرف عشر دقائق من كل محاضرة للتهديد والوعيد والتحذير، وكأن الطلاب مقبلون على معركة شرسة للبقاء على قيد الحياة، وطالب آخر ذكر لي سياسة أحد الأساتذة للتنصل من مسئولياته وتحميل أعبائها على الطلاب، حيث يُحملهم فوق ما يطيقون وأعلى مما يدركون.
دائماً أقول إن القاعات الدراسية للأستاذ كالمسارح الفنية للفنان، فإمّا أن يكون الأستاذ موهوباً ومحبوباً، ومسرحه ممتلئ بالطلاب، وإمّا أن يكون الأستاذ غير ذلك، ومسرحه يشكو من كثرة المقاعد الخالية من أجساد الطلاب أو فارغة من معنوياتهم وذاكرتهم.
د. خليل اليحيا
كلية الطب
إضافة تعليق جديد