عندما تحول الأديب إلى طبيب!

 

 

هل يستطيع الإنسان أن ينجح في حياته دون أن يضطر لإثبات ذلك للآخرين؟

بالتأكيد يستطيع، طالما أن المتعة الشخصية والرغبة الذاتية هي التي تحتضن هذا النجاح وتقف خلفه؛ دون أن يكون هاجس الآخرين حاضراً كمبرر أو سبب يدفعنا للنجاح أو نلهث خلفه!

ولهذا غالباً ينجح الإنسان الذي يستمتع بعمله ويشتاق إليه أكثر من أولئك الذين تم فرض النجاح عليهم، وأعني بهم أولئك الذين تم تحديد إطار للنجاح لهم ورسم صورة نمطية له في أذهانهم فساروا خلف هذه الصورة النمطية بتثاقل وتثاؤب!

كم عدد الأطفال الذين يتحدثون علناً عن رغباتهم في أن يكونوا أطباء أو مهندسين أو طيارين؟

تلك المهن النموذجية التي تدغدغ خيالات الأطفال الناشئة؛ ربما كنا ضمن مجموعة أولئك الأطفال الذين حلموا يوماً ما بهذا النوع من المستقبل!

في الواقع هي ليست أحلام الأطفال، بل هي غالباً أحلام أبائهم وأسرهم التي تحاول جاهدة أن يسير هذا الطفل على حبل الأحلام دون أن يقع أو يتأرجح؛ لتحقيق مستقبل عائلاتهم التي لم تسمح لها الظروف في تحقيق ذلك، لكنّ النهاية تأتي أحياناً مُغايرة حينما يكون التأرجح هو البداية والسقوط المؤلم هو الخاتمة!

تحدثت يوماً مع طبيب في سنة الامتياز لم يعد يشعر بمتعة الحياة المهنية ولا يجد حماساً لمُمارسة المهنة بزيها الأنيق ووجاهتها الكبيرة! لم يكن تخصص الطب هو الاختيار الأول لهذا الطبيب، بل كان ميالاً للأدب والشعر، وكان شغوفاً بالقراءة في هذا المجال، لكن المعدل التراكمي المرتفع وضغوط الأهل كانت لها الغلبة حيث أرادوا أن يكون هناك طبيب في العائلة!

ليست مشكلة هذا الطبيب غياب المتعة والشغف أثناء العمل، بل الضغوط اليومية الكبيرة ليثبت للآخرين أنه ناجح مهما بدت تضاريس الملل تجتاح تقاسيم وجهه وتفاصيل حياته! لقد تحول الأديب إلى طبيب في مفارقة عجيبة لناموس الحياة!

وكم من المبتعثين أو المبتعثات من لا يعلم سبباً منطقياً لتواجده في الغربة سوى أنها رغبة شخص ما له أهمية كبيرة في حياتهم، فبينما يسير الناس إلى أهدافهم وتحقيق أحلامهم، يبقى هؤلاء يبحثون عن إجابة منطقية لسؤال تجاهلوه في البداية! من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟!

أتذكر شاباً قابلته قبل سنوات في الولايات المتحدة في معرض المهنة السنوي الذي كانت تنظمه الملحقية الثقافية السعودية، كان لا يزال في معهد اللغة، تحدثنا حول مستقبله الأكاديمي والمهني؛ أخبرني وقتها أنه من هواة الصيد والرحلات البرية في السعودية، وأنه لا يزال يشعر بغربة المكان ووحشة الأصحاب على الرغم من الأشهر الطويلة التي قضاها في الغربة.

كان هوس الابتعاث حينها يسيطر على هامش الحياة الاجتماعية، وكانت البعثة نافذة مشرقة لسياحة مجانية وشهادة أكاديمية على غرار المثل الشعبي الدارج: «حج وبيع مساويك»، فجرف تيار الابتعاث هذا الشاب وألقاه في اليم، حتى وجد نفسه وحيداً بعد أن ذهبت سكرة البعثة وحلاوتها وحضرت الفكرة.

لقد ترك ذلك الشاب مقاعد الدراسة في النهاية وعاد لمعانقة الحياة البرية مرة أخرى بتفاصيلها القاسية وتضاريسها الحارة! قد نختلف مع خياراته ونستخف بهواياته، لكنّ الأهم هو أنه ذهب مع اختياره.

ويبقى السؤال: كم من الطلاب والطالبات من اختار السير في طريق لمجرد أنّ أصدقاءه أو جيرانه أو أقاربه قد سبقوه إليه دون أن يفكر للحظة واحدة عن اختياره الحقيقي وماذا يريد بالضبط.

البعض منا يواجهون تحديات مستمرة، ويقاومون تلك التوقعات التي يفرضها الآخرون عليهم ويضعونها أمامهم لمجرد أنهم يعملون في مكان ما أو يتقلدون منصباً معيناً.

هم لا يعلمون تفاصيل هذا العمل، ولا يعنيهم قيود هذا المنصب، بقدر ما يريد هؤلاء أن تتحقق تطلعاتهم وتوقعاتهم بناءً على سقف افتراضاتهم التي لا نعلم عنها شيئاً ولم نكن يوماً شركاء في تشييد ذلك السقف.

إنه أمر مزعج لكنه جزء من التركيبة الاجتماعية التي يلزمنا مسايرتها دون أن نخسر معركة الانتصار لأهدافنا ورغباتنا وطموحاتنا الشخصية بعيداً عن تحقيق أهداف الآخرين بالوكالة!

 

د. خليل اليحيا

كلية الطب

alkhaleel@ksu.edu.sa

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA