لا تزال الآثار الصحية لجائحة «COVID-19» واضحة ومفهومة، لكن يبدو من الواضح أن هذه الأزمة ستؤثر على المدن جسدياً واجتماعياً واقتصادياً على مدى أجيال قادمة.
لطالما كانت الطريقة التي نخطط بها مدننا تعتمد على الاتجاهات الثقافية والتكنولوجية السائدة دون الأخذ في الاعتبار الأزمات الكبرى، لقد أدى تفشي وباء الكوليرا في القرن التاسع عشر إلى إدخال أنظمة الصرف الصحي الحضرية الحديثة، وتم العمل على لوائح وأنظمة البناء حول إدخال أشعة الشمس والهواء الطبيعي في المنازل؛ كإجراء ضد أمراض الجهاز التنفسي في الأحياء الفقيرة ذات الكثافة العالية في أوروبا، كذلك كان لإدخال السكك الحديدية تأثير هائل على الأنظمة الحضرية الوطنية، كما أدى الإنتاج الضخم للسيارة إلى توسع المدن بسهولة وامتدادها إلى الضواحي المترامية الأطراف، مما أدى إلى إنشاء مدن شاسعة في السنوات الأخيرة، كما أن الرقمنة والبيانات لها دور مع العوامل المذكورة سابقاً في طريقة تخطيط المدينة.
لقد أدى وباء «COVID-19» بالفعل إلى تغير كبير في الحياة الحضرية، فقد انخفض عدد الأشخاص الذين يتنقلون بشكل كبير وذلك بسبب العمل عن بعد الذي يسميه البعض العمل من المنزل، وهو الوضع الطبيعي الجديد لمن يستطيع تحمل تكاليفه، وقد يعد خياراً مستقبلياً للكثير من الشركات والجهات الحكومية.
كل هذه التغييرات أثارت نقاشاً حول كيفية بناء المدن، والأهم من ذلك كيف يمكن أن تستجيب المدن بشكل أفضل للأزمات الحالية والمستقبلية.
هناك خمس طرق رئيسية سيتأثر بها التخطيط الحضري في السنوات القادمة نتيجة جائحة «COVID-19»، وهي:
- التركيز على الوصول إلى الخدمات الأساسية:
أثار انتشار «COVID-19» في أكثر المراكز الحضرية في العالم أسئلة حول الكثافة السكانية وعلاقتها بالصحة.
في الواقع الكثافة السكانية هي الشرط الرئيسي لتقديم خدمات حضرية فعّالة وهي المحرك الأساسي للأنشطة الاقتصادية والثقافية والسياسية، لذلك يفتقر عدد كبير جداً من الناس في المدن اليوم لإمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية، ولا شك أن صعوبة الوصول للخدمات الأساسية مثل الماء والإسكان والرعاية الصحية يؤدي إلى تفاقم المشاكل وصعوبة الاستجابة والتخلص من الأوبئة، وقد كان ذلك شاهداً عندما تم حظر لاتجول ومنع الناس من الخروج من منازلهم، فكان لذلك أثر كبير على المجتمع لاسيما بعض الأحياء التي لا تتكامل بها الخدمات، فيجب تلافي ذلك وأن يكون توفير الخدمات الحضرية أولوية للمدن في المستقبل.
- توفر المساكن والأماكن العامة بأسعار معقولة:
تحدد الطريقة التي نخطط بها مدننا إلى حد كبير مدى مرونتها وتقبلها للتعديل والتحديث، وجود الكثافة السكانية بدون مساحات عامة ومساكن مناسبة وبأسعار معقولة ستؤدي حتماً إلى مشاكل، وقد كان هذا السبب في تطبيق العديد من قوانين ولوائح الإسكان في كثير من دول العالم؛ مما أدى إلى وقف العديد من الأمراض.
على سبيل المثال قد يجعلنا «COVID-19» في القرن الحادي والعشرين نقوم ببعض التدابير المؤقتة التي تجعل من الممكن للناس اتباع إرشادات التباعد الاجتماعي والتغيير في بعض لوائح وأنظمة التخطيط الحضري، ومع هذا يجب أن تكون التغييرات أكثر استدامة للوصول إلى الإسكان الميسور التكلفة وتوفر المساحات العامة لاسيما في المناطق الفقيرة عالية الكثافة.
- مساحات خضراء متكاملة:
الحدائق هي أحد الأماكن المتأثرة بالإغلاق خلال جائحة «COVID-19» لذلك يجب أن يؤدي النهج الجديد لتخطيط المدن إلى إدخال المساحات الخضراء والمنتزهات والغابات في قلب تفكيرنا في مدننا وتخطيطها، كما أن الأمر يجب أن يكون أكثر شمولية كإعادة تدوير المياه مثلاً والاستفادة منها والتخلص من مستنقعات المياه للخروج بصحة أفضل وإدارة أفضل.
- زيادة التخطيط الإقليمي للمدينة:
ما يحدث في المدن لا يبقى في المدن، والمقصود أن المدينة تؤثر على الإقليم، فالتأثير الاقتصادي من هذه الأزمة أثر على سلاسل التوريد والإنتاج في المناطق المحيطة بها، إذاً فنحن بحاجة إلى تخطيط إقليمي أكثر تكاملاً بين المدن حول الاقتصاديات وتوفير الطاقة وشبكات النقل وإنتاج الغذاء حتى تصبح هذه الأمور ركائز قوة بدلاً من أن تكون نقاط ضعف.
- المزيد من البيانات الدقيقة:
عادةً يتم تجميع البيانات بشكل أساسي على المستوى الوطني، في حين يتم اتخاذ العديد من القرارات بشأن احتواء أي وباء أو جائحة على المستوى المحلي، ولمساعدة المدن على الاستفادة من البيانات الضخمة لمواجهة الأزمات والتحديات؛ فإننا نحتاج إلى تمكين المدن من المزيد من البيانات الدقيقة والمحدثة بانتظام والتي يمكن أن توفر أدلة أفضل لاتخاذ القرار، وقد رأينا ذلك في نشرات وزارة الصحة من خلال البيانات والخرائط التفاعلية لأعداد الإصابات والوفيات وحالات التعافي وغير ذلك من المعلومات المهمة والدقيقة.
عوض بن سعد الغوازي
ماجستير في التخطيط العمراني
إضافة تعليق جديد