كان الكتاب إلى وقت قريب الوسيلة الأهم للترفيه، وكانت الكتب تحتل موقع الصدارة في المنازل والمكاتب، حيث تجد غالباً تلك الزاوية أو الغرفة في البيوت والتي تكون عادةً مخصصة للكتب وتحمل لقب «مكتبة» وتمتلئ بالرفوف والأدراج التي تعانق الكتب في هدوء وتعاملها بدلال. وكان أفراد المنزل من الكبير إلى الصغير يعتادون زيارة المكتبة المنزلية ويمكثون فيها ويقرأون ما تلقيه من معارفها، فقد كانت القراءة ثقافة شائعة في المجتمع، وكان البعض يستعرضون حصيلتهم اللغوية وثقافتهم المعرفية وقراءاتهم في شتى المجالات. وكانت المكتبات المنزلية عند البعض مكاناً فاخراً لاستقبال الضيوف والاحتفاء بهم وتقديم بعضاً من إصدارات تلك المكتبات لهم كنوع من التكريم والإجلال والاحترام، فقد كان الكتاب حينها من أفخر أنواع الهدايا والعطايا. حتى المساجد في وقت مضى كانت تضم مكتبات صغيرة تحوي بعضاً من المجلدات الفقهية والمصنفات التاريخية وكتب الحديث والسيرة وشيئاً من المعاجم اللغوية في دلالة واضحة على ارتباط الناس بالقراءة.
كما كانت معارض الكتاب فعاليات ثقافية وترفيهية، وكان مصدراً للاطلاع على آخر الكتب المنشورة والحصول على كميات منها لتغذية المكتبات المنزلية بالجديد والمفيد من تلك الكتب والإصدارات، وكان من النادر أن تشاهد الزوار يخرجون من معارض الكتاب دون أن يحملوا أكياساً ممتلئة بأنواع الكتب والمصنفات والمجلدات من مختلف الفنون والعلوم. ولا زلت أتذكر زياراتي لمعارض الكتاب مع بعض الأصدقاء حيث نجلس بالساعات نمر على أجنحة المكتبات ونستعرض الكتب لننتقي ما طاب من جديدها وعناوينها ، حيث تعرفت على سيرة مالكوم إكس وقرأت في حياة غازي القصيبي الإدارية ولمست معاناة نيلسون مانديلا، واستمتعت بسرد تاريخي أنيق عن الدولة السعودية في مراحلها الثلاث في مجلد يزيد عن 300 صفحة، وتصفحنا كتب تتحدث عن الشعر والأدب والتاريخ.
ثم نشأت مواقع التواصل الاجتماعي وازدهرت بضاعتها، وتطورت الأجهزة الذكية، وأصبحت المعلومة أسهل وأسرع انتشاراً من أي وقت مضى، وتمكنت التقنية من توفير بدائل ترفيهية أكثر متعة وأقل كلفة جعلت أجيالاً جديدة تدين بالولاء لها وترتبط عاطفياً وجسدياً بها حتى يكاد الواحد من هذه الأجيال يفقد اتزانه وتوازنه لو غاب عنها أو غابت عنه، حتى أنه قبل أيام تعطل تطبيق الفيسبوك والتطبيقات التابعة له مثل الواتساب والإنستقرام فحصدت مواقع وتطبيقات تقنية أخرى ملايين المستخدمين الجدد الذين لم يتحملوا تعطل تطبيقاتهم الرئيسية لعدة ساعات.!
هذه التقنيات الجديدة والتطبيقات رسمت مفهوماً مختلفاً للترفيه، وخلقت مزاجاً شعبياً قضى على بعض الفعاليات الترفيهية التقليدية ذات الشعبية وأهمها القراءة، فنشأت فجوة كبيرة بين الأجيال السابقة التي تمتهن القراءة كهواية وممارسة وبين الأجيال الحالية التي اكتفت بجمالية الصورة وفضولية اللقطة على مواقع التواصل كبدائل عن أي نشاط ترفيهي آخر. ومن صور هذا التأثير ازدحام معرض الرياض الدولي للكتاب، والذي اختتم أعماله الأسبوع الماضي، بالجماهير والزوار الذين توافدوا عليه من كل مكان وفي كل الأوقات لكن دون أن تلمس رغبات حقيقية في اقتناء الكتب وشراءها، فقد كان من المشاهدات الشخصية قلة أعداد الزوار الذين يخرجون من المعرض وهم محملين بالكتب والإصدارات على العكس من معارض الكتاب في السابق. هذا الازدحام في معرض الكتاب يعود ربما إلى الفضول الذي يحرك الأجيال الجديدة الراغبة في توثيق حضورها الشخصي ونشرها في حساباتها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل الدعاية والمباهاة دون اكتراث بالقيمة الأدبية للكتاب واقتناءه كمصدر للترفيه والمعرفة والثقافة.
حتى على المستوى الأكاديمي، لم تعد قراءة الكتب والمراجع هاجساً عند كثير من الطلاب، بل أصبحوا يكتفون بما يطرحه أستاذ المادة من سلايدات توضيحية عند إلقاء المحاضرة، وحتى هذه السلايدات أصبحت مجالاً للتفاوض مع الأستاذ لاختصارها وحذف ما تيسر منها.!
القراءة أسلوب حياة، والكتب مصادر للتغذية الروحية والمعرفية، والقارئ الجيد هو مثقف جيد، وحتى نملك مجتمعاً مثقفاً وواعياً، لابد لثقافة القراءة أن تعود إلى رونقها وتألقها على المستوى الفردي والمجتمعي، وأن تعود للكتاب هيبته ومكانته القائمة على جودة المحتوى ونوعية المضمون وأناقة العرض، فالكاتب المتميز يستمد قوته وشهرته وشعبيته من قوة حروفه وكلماته ومؤلفاته، وليس كما هو حاصل الآن من قيام بعض مشاهير التواصل الاجتماعي في منافسة المثقفين والأدباء في بضاعتهم ومزاحمتهم في ندواتهم ومعارضهم أملاً في الحصول على مزيد من الاهتمام والانتشار والمباهاة والبريستيج الفارغ من أي مضمون.
د. خليل اليحيا
كلية الطب
إضافة تعليق جديد