التربية الخاصة في عيون الوطن

حققت المملكة العربية السعودية إنجازاتٍ استثنائية خلال مدة قياسية في مجال تعليم مواطنيها من ذوي الإعاقة ورعايتهم وتأهيلهم. وجاءت هذه الإنجازات النوعية على المستويين المحلي والإقليمي من خلال سلسلة متلاحقة من التطورات السريعة؛ نتيجة لتضافر العديد من الجهود في المجالات الصحية والتربوية والاجتماعية والتشريعية. وفي الحقيقة، لم يكن اهتمام المملكة بأبنائها من ذوي الإعاقة اهتمامًا قائمًا على مواءمة التوجهات العالمية الحديثة فحسب، بل هو مبدأ متأصل في دستور المملكة المستمد من مبادئ العقيدة الإسلامية الغراء القائم على أسس من العدالة والمساواة. فالنظام الأساسي للحكم الصادر بأمر ملكي رقم (أ/90) بتاريخ 27/ 8/ 1412هـ يكفل في المادة رقم (27) حق المواطن وأسرته في الحالات الطارئة والمرض والعجز والشيخوخة، ويدعم نظام الضمان الاجتماعي لمستحقيه، ويشجع المؤسسات والأفراد على الإسهام في الأعمال الخيرية.

وقد حرصت المملكة على توفير الخدمات التعليمية المناسبة لأبنائها من ذوي الإعاقة واصدار الأنظمة الداعمة لحقوقهم، ورصدت الميزانيات الضخمة لتحقيق هذا الهدف، حيث أكدت سياسة المملكة التعليمية في موادها من (54-57) ومن (188- 194) على أن تعليم أبناء الوطن من ذوي الإعاقة جزءٌ لا يتجزأ من النظام التعليمي في المملكة. كما صدر منذ ما يزيد عن عشرين عامًا «نظام رعاية المعاقين» بالمرسوم الملكي الكريم رقم (م/37)، وتاريخ 23 /9 /1421هـ، الذي أكد في الفقرة (2) من المادة الثانية أن الدولة تكفل حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الحصول على خدمات الوقاية والرعاية والتأهيل والتعليم بما يتناسب مع قدراتهم ويلبي احتياجاتهم. وقد وقعت «الهيئة السعودية لحقوق الإنسان» في 27 يونيو من عام 2012 على «اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة» التي تؤكد ضمن موادها على حقوقهم التعليمية في مختلف مراحل التعليم العام والتعليم العالي دون تمييز. ولدعم هذا الجانب الحقوقي، تم تأسيس «نظام تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة» بموافقة مجلس الشورى في جلسته الاعتيادية السادسة والخمسين في 19 أكتوبر 2016 الذي يكفل حق الأشخاص ذوي الإعاقة في الحصول على تعليم مجاني ومناسب في جميع المراحل التعليمية، وتقديم البرامج والخدمات التي تعزز نجاحهم، وتوفير الأنظمة والإجراءات التي تدعم وصولهم.

في الواقع، لقد مرّ تعليم الأشخاص ذوي الإعاقة في المملكة بالعديد من التطورات الإدارية والأكاديمية المهمة حتى وصل إلى المستوى المتميز الذي نشهده اليوم. وقد بدأت المراحل الأولية عند تأسيس «إدارة التعليم الخاص» عام 1962؛ بهدف تقديم الخدمات التعليمية والمهنية والاجتماعية لذوي الإعاقة البصرية والصم وذوي الإعاقة الفكرية، إلى جانب إنشاء «إدارة التأهيل المهني» المختصة بتأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة مهنيًا بما يتناسب مع قدراتهم، وتمكينهم ليكونوا مواطنين منتجين ومستقلين. وفي مواكبةٍ للاتجاهات التربوية الحديثة؛ توالت المسميات على «إدارة التعليم الخاص» حتى أصبحت «الإدارة العامة للتربية الخاصة» منذ عام 2006. أما عن دمج الطلبة ذوي الإعاقة في مدارس التعليم العام، فقد بدأت بوادر «الدمج المكاني» في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إلى أن ظهر «الدمج التربوي» بمفهومه الأوسع في عام 1996. وبهدف تنظيم برامج التربية الخاصة، فقد أُصدرت قائمة بالقواعد التنظيمية لمعاهد وبرامج التربية الخاصة 1422/ 1423هـ، بقرار وزاري رقم (1674)، نصت المادة الثانية منها على أن التربية الخاصة في المملكة «تهدف إلى تربية وتعليم وتأهيل الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة بفئاتهم المختلفة، وتدريبهم على اكتساب المهارات المناسبة حسب إمكانياتهم وقدراتهم، وفق خطط مدروسة، وبرامج خاصة؛ بغرض الوصول بهم إلى أفضل مستوى، وإعدادهم للحياة العامة والاندماج في المجتمع». وقد طُورت تلك القواعد لتسفر عن إصدار الدليل التنظيمي والدليل الإجرائي للتربية الخاصة 36/ 37هـ، اللذين تضمنّا توسعًا ملحوظًا في خدمات التربية الخاصة وخدمات الدعم والمساندة.

وقد أدركت سياسة المملكة التعليمية أهمية الإعداد الأكاديمي والتربوي للكادر التعليمي المتخصص في مجال التربية الخاصة ومواكبة الاتجاهات العالمية في تعليم الطلبة ذوي الإعاقة منذ وقت مبكر، فتحملت الجامعات السعودية مسئولية تطوير البرامج الأكاديمية المتخصصة لتخريج حاملي شهادة البكالوريوس في التربية الخاصة ضمن مسارات متعددة تخدم التباين في فئات الإعاقة. وفي عام 1984 كان لجامعة الملك سعود السبق في افتتاح أول قسم للتربية الخاصة على مستوى المملكة العربية السعودية والعالم العربي، ليأخذ الصدارة لعدة سنوات في إعداد الكوادر التعليمية المؤهلة. كما داومت جامعة الملك سعود على حمل راية الريادة في هذا المجال بتأسيس برامج الدراسات العليا بقسم التربية الخاصة في عام 2002. واستمر التوسع في إنشاء الأقسام المتخصصة في جامعات المملكة، حيث تم افتتاح أقسام التربية الخاصة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة وجامعة الملك خالد بأبها في عام 2001، ثم بجامعة الملك فيصل بالدمام في عام 2004، وبجامعتي الطائف والقصيم في عام 2006.كما اُنشئت أقسام التربية الخاصة بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض في عام2010، وبجامعة أم القرى بمكة المكرمة في عام 2011. وفي الحقيقة، كان لجهود الأقسام الأكاديمية وأعضاء هيئة التدريس والخريجين دور فعّال في رفع مستوى الخدمات التعليمة المقدمة للطلبة ذوي الإعاقة، إلى جانب إسهاماتهم في نشر الوعي بالثقافة الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة، والتعريف بحقوقهم واحتياجاتهم. 

وفي الوقت الحاضر، تقف المملكة على أعتاب نموٍّ عريضٍ ومتصاعد بفضل التوجهات الجديدة للدولة التي ستجعل من التعليم ميدانًا أكثر إتاحةً وشموليةً ودعمًا للفئات الأكثر خصوصيةً. فلم تُغفل المملكة الفتية حقوق أبنائها من ذوي الإعاقة، حيث جاءت رؤية المملكة 2030 داعمة لتمكينهم ومؤكدة لحقوقهم في الحصول على الفرص التعليمية والوظيفية المناسبة، مع توفير التسهيلات والأدوات التي تضمن نجاحهم في تحقيق مستوى لائق من الاستقلالية المعيشية والاندماج المجتمعي. واستجابة لذلك، تم تأسيس «هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة» في عام 2018 ضمن برامج التحول الوطني بقرار وزاري رقم (266)؛ لضمان حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الحصول على فرص الوقاية والرعاية والتأهيل والتعليم المناسبة، وما يتبع ذلك من سياسات وتنظيمات وإجراءات على مستوى القطاعين الحكومي والخاص. كما وجّه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله في عام 2019 باعتماد استخدام مسمى «الأشخاص ذوي الإعاقة» في المخاطبات الرسمية والتصريحات الإعلامية، واعتبار هذا المسمى جزءًا لا يتجزأ من التزام المملكة بالاتفاقيات الدولية. كما توالت مجموعة من المبادرات التطويرية في مجال التربية الخاصة ضمن رؤية المملكة 2030 من قبل وزارة التعليم؛ من أجل تحسين نوعية الخدمات المقدمة للطلبة من ذوي الإعاقة، ومن أهمها تقديم الخدمات التعليمية للأطفال المقيمين في مراكز الأورام والمستشفيات، وتقديم خدمات التدخل المبكر للأطفال ذوي الإعاقة والمعرضين للخطر، إلى جانب تطوير مراكز الخدمات المساندة والشراكة الأسرية. بالإضافة إلى المبادرات التي يتبناها مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة لدعم تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من الوصول الشامل في البيئة العمرانية ووسائل النقل والمواصلات بمختلف أنواعها. وقد بادرت جامعة الملك سعود - بدورها الريادي المعهود - بالاستجابة للقرار السامي رقم (35363) بتاريخ 22/ 9/ 1434ه بتعميم الوصول الشامل في المملكة من خلال افتتاح برنامج الوصول الشامل لتمكين الطلبة ذوي الإعاقة من الوصول إلى التعليم الجامعي وصولًا شاملًا ضمن بيئة داعمة تعمل على تذليل العوائق المادية والبشرية.

ختامًا، فإن التسارع الذي تشهده المملكة العربية السعودية في مجال تقديم الخدمات التعليمية للطلبة ذوي الإعاقة، من خلال تأسيس البرامج واصدار الأنظمة وتوقيع الاتفاقيات وتفعيل المبادرات، إنما يدل على مدى الرعاية التي يحظى بها أبناء هذا الوطن المعطاء في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عده الأمين الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظهما الله؛ إحقاقًا لمبادئ العدالة والمساواة التي تتبناها المملكة منذ تأسيسها، وتحقيقًا لمتطلبات الوصول الشامل العالمية، وتفعيلًا لرؤية المملكة 2030 نحو التمكين المجتمعي لكافة أفراد المجتمع.

د. نوف بنت عبدالله النعيم

أستاذ التربية الخاصة المساعد

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA