رسالة من نخلة

زاوية: عمرانيات

كلمة «خراط» في اللغة العامية تعني الشخص كثير المبالغة، لدرجة قد تكون مضحكة. هذه الكلمة أتوقع أنها فُصِّلت بالضبط لتصف صاحبي مصلح العمران، الذي قال لي مرة أنه تلقى مكالمة هاتفية من نخلة.  من نخلة يامصلح؟، شجرة النخل ما غيرها؟ قال نعم، نعم!! وهل كانت خلاص أم برحي يا مخلص؟  قال ضاحكاً إن فصيلتها ليست بالأمر الهام، المهم أنها كانت تبكي بحرقة وهي تكلمني.  ومالذي أزعج نخلتنا العزيزة يا مصلح؟ ألم تخبرك؟ بلى أخبرتني، رد مصلح. تقول أنها وبنات جنسها خدمتنا نحن العربان أيما خدمة. أطعمتنا من ثمارها، ومن خوصها وسعفها نصنع الكثير من الأدوات. وحتى عندما تموت نشق جسدها ونقسمه أوصالا طويلة نسقف بها بيوتنا. ومقابل كل هذه الخدمات نحن نهينها ونشوه منظرها!!   ألم تسألها كيف أهنَّاها يا مصلح؟    تقول إنها رأت دُمىً صناعية تشبه النخيل وقد نُصبت في الكثير من المباني العامة في مدننا، مثل المطارات ومراكز التسوق وحتى بعض المباني المكتبية.  ومالذي يزعجها في ذلك يامصلح؟ تقول إن هذه الدمى التي ننصبها لا يمكن أن تؤدي دور شجرة النخلة الحقيقية، بل إنها حيلة رخيصة لا تنطوي إلا على البسطاء. جذعها أنبوبة بلاستيكية، ثُبِّت عليها الكرب بالمسامير. أما سعفها المثبت بالمسامير أيضا فهو يعد على الأصابع وينبثق من نهاية الجذع بطريقة تثير السخرية والإشمئزاز لدى أي انسان لديه قدر من الذوق.  هذا السعف دائم الخضرة، لا ينمو ولا يذبل ولا يجف. إنه يفتقر إلى الحياة. ويزداد قبحه بمضي الوقت عندما يتراكم عليه الغبار وتهترء المسامير فيميل السعف يمنة ويسرة ، وبعضه يتهدل الى الأسفل.

ألم ترد عليها يا مصلح وتوضح لها أن هذه النخيل هي للزينة فقط؟  بلى قلت لها ذلك، أجاب مصلح. سخِرت مني، ولو كانت أمامي لربما بصقت في وجهي.  ردت على بغضب: أي زينة في هذه الدمى التي تفتقر إلى الحياة؟ عرفنا أنكم معشر البشر تستمتعون برؤية الشجر داخل مبانيكم لأنها تذكركم بالطبيعة خارجها، وتطمئنكم أنكم لا زلتم على اتصال بها حتى عندما تكونون داخل مبانيكم الشبيهة بالمغارات. لكن هذه الدمى الصناعية الميتة لا يمكن أن توفر لكم الشعور بالاتصال بالطبيعة فما الفائدة منها؟

قلت لها ياعزيزتي أن النخيل كما تعرفين، تحتاج إلى ري يومي وعناية مستمرة، بل أنها تزداد طولا كل سنة. سخرت مني مرة أخرى محدثتي وقالت إن تبريرك هذا مثير للضحك.  أنت كمن يشتري راديو لا يشتغل، فقط لأنه لا يستهلك بطارية ولا كهرباء.  إذا كان طولي هذا يزعجكم فلماذا لا تستعينون بأشجار طبيعية أصغر حجما مني؟  هناك فصائل من الأشجار التي تنمو داخل المباني، يمكن زراعتها داخل مغاراتكم فتوفر لكم ذلك الشعور بالإتصال بالطبيعة الذي يسحركم.  أعرف أن صوت خرير الماء الحقيقي يبعث الراحة في نفوسكم، معشر البشر، فتقطعون الفيافي والبحار لتشاهدوا الماء يتساقط من علو فيطربكم صور خريره.  تستطيعون الآن تسجيل صوت خرير الماء وتسمعونه في مبانيكم، فلما لا تفعلون ذلك؟ الجواب هو أن صوت خرير الماء المسجَّل لا يولد لديكم الشعور بالطبيعة. أليس كذلك؟

كفى ياعزيزتي، رددت عليها، لقد افحمتيني واقتنعت بكلامك. ردت علي: وما عساك فاعل؟ قلت لها سأنقل شكواك هذه إلى صاحب لي، يكتب في رسالة الجامعة، عله يكتب عنها فيقرأها طلاب كلية العمارة وطلاب كلية العلوم الإدارية.  شكرتني كثيرا واستوضحت مني علاقة كلية العلوم الإدارية بالموضوع فقلت لها إن بعضا من طلبتها سيصبحون مطورين عقاريين، وهؤلاء لهم الكلمة الأخيرة في وضع هذه الدمى في مغاراتنا كما تسميها.  على أي حال، كل من يقرأ شكواك، بغض النظر عن تخصصه سيتأثر ياعزيزتي بمعاناتك ومعاناة زميلاتك في هذا الموضوع، وإن شاء الله يصير خير!

د. محمد حسين ابراهيم

أستاذ التخطيط العمراني المشارك

كلية العمارة والتخطيط

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA