أهمية المعالجة الآلية للغات في المملكة

تعد اللسانيات الحاسوبية Computational linguistics أحد أهم علوم اللسانيات التطبيقية، وتمثل محور هام يربط اللسانيين بالمعلوماتيين، بل تعتبر من العلوم التي تلعب دور بالغ الأهمية في جميع دول العالم على مستوى تكنولوجيا المعلومات والاتصال (ICT) والذكاء الاصطناعي (AI) بشكل عام والأمن السيبراني (CS) بشكل خاص. كما يعد مجال المعالجة الآلية للغات الطبيعية (NLP) أحد أهم فروع علم اللسانيات الحاسوبية، الذي يتطلب حتماً عدد من الكفاءات (تقنية، لغوية، حاسوبية، ثقافية، توثيقية، منطقية، ورياضية) من الضروري استحضارها من أجل إتمام عملية المعالجة الآلية لأي لغة. هذا المجال يضم عدد من التخصصات من أبرزها «الترجمة الآلية العصبية» (NMT)، ويهمنا هنا الترجمة في المجال الأمني بالتحديد. هذا التخصص الدقيق هو محور حديثنا في هذا المقال ضمن إطار مفهوم «المعالجة الآلية للغات» (LP) الذي يعتبر من أهم مفاهيم مجال الذكاء الاصطناعي. فما المقصود بالمعالجة الآلية للغات ؟ وما أهمية هذا المجال في المملكة ؟

كلمة «المعالجة» تعنى «السبر والتحليل»، وكلمة «الآلية» تعني الطريقة التي تتم من خلالها عمليتي السبر والتحليل، أما «اللغات» فتعني الرموز والإشارات المستخدمة للتعبير عن الأشياء، والمقصود هنا جميع اللغات الإنسانية. يمكن تعريف هذا المجال بأنه مجال علمي يجمع بين التقنية واللغة والمعلوماتية، ويتناول قواعد البيانات الخاصة بلغات البرمجة بهدف تحويلها إلى لغات يمكن فهمها والتعامل معها من خلال الآلة.

يأتي مفهوم الترجمة الآلية العصبية ضمن أهم مفاهيم المعالجة الآلية للغات، ويقصد به إتمام عملية الترجمة من خلال نظام شبكات عصبية معد مسبقاً لنقل محتوى نص من لغة إلى أخرى. من أهم التخصصات الدقيقة في هذا المجال يأتي تخصص «الترجمة الآلية العصبية في المجال الأمني» (NMTS)، الذي يشمل عدة مسارات من أهمها: الترجمة الآلية العصبية في مجال الأمن الوطني، الذي يتناول أمن الدولة من جميع الجوانب: الفكرية، المعلوماتية، العسكرية، الاقتصادية، الدينية، ...إلخ. في الجانب الفكري على سبيل المثال يتلخص دور المختص في تهيئة الآلة ببرامج ذكية متخصصة قادرة على السبر والتحليل والرصد لأي محتوى أجنبي يتجاوز حدود الأمن الفكري للمجتمع. وهنا نؤكد أن دور المترجم الآلي في هذه العملية يتمثل في إعادة صناعة المعنى في اللغة الهدف وتقديم المنتج النهائي للعملية، ويعتبر دور أساسي في الحد من انتشار المحتوى المتطرف المهدد للأمن الفكري. أما في الجانب المعلوماتي فيتلخص الدور في تطبيق نظام الترجمة في مجال أمن المعلومات (CyberTranslation) لحماية أمن تكنولوجيا المعلومات والحد من الجرائم المعلوماتية.

هذا المسار الغير متوفر ضمن برامج الأقسام الأكاديمية المعنية في جامعات المملكة حتى يومنا هذا يعد من أهم المسارات التخصصية الضرورية لقطاع الأمن السعودي القائم على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. لا ننسى أن الترجمة الآلية العصبية في المجال الأمني ذات أهمية استراتيجية خاصة لجميع دول العالم. وقد ظهرت هذه الأهمية لأول مرة أثناء الحرب العالمية الثانية، فجاءت على إثرها الانطلاقة الفعلية للترجمة الآلية (MT) عبر تجربة جامعة جورج تاون Georgetown University عندما استحدث برنامج فك شفرات الكلام للترجمة آلياً من الروسية إلى الإنجليزية.

المملكة بقيادتها الحكيمة شقت طريقها نحو الريادة العالمية في مجال أمن المعلومات بشكل عام، واتخذت ضمن رؤيتها الواضحة استراتيجية وطنية شاملة ومميزة للبيانات والذكاء الاصطناعي وأصبحت ضمن مصاف دول العالم الرائدة في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وقد جاءت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) كأول مفعل لمبادرات هذه الاستراتيجية. ولا شك أن حرص هذه القيادة –حفظها الله- على إنشاء عدد من الهيئات والمراكز لحفظ الأمن الوطني: مركز الحرب الفكرية (IWC)، المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (GCCEI)، مركز الأمن الوطني (NSC)، المركز الوطني للذكاء الاصطناعي (NCAI)، مركز المعلومات الوطني (NIC)، والهيئة الوطنية للأمن السيبراني (NCA)، يؤكد أهمية مجال المعالجة الآلية للغات الأجنبية والترجمة الآلية العصبية من وإلى العربية. إلا أن الحاجة القائمة في هذه الهيئات والمراكز وغيرها لمترجمين سعوديين متخصصين في المجال الأمني المعلوماتي على وجه الخصوص تتطلب التفكير ضمن إطار «برنامج تنمية القدرات البشرية» في العمل على إنشاء مركز وطني يعني بالمعالجة الآلية للغات National Center for Language Processing (NCLP) يحتوي على معامل خاصة بالبرمجة اللغوية والمعالجة الآلية لجميع اللغات ويمثل بالتعاون مع الجهات المعنية قاعدة مرجعية علمية في المجال ويقدم دورات وبرامج تدريبية نوعية متخصصة في جميع مسارات الترجمة الآلية الأمنية. وهنا نؤكد أن كليات اللغات والترجمة وعلوم الحاسب والمعلومات في المملكة هي المؤسسات الأكاديمية المعنية بالتأسيس لهذا المركز من خلال استحداث برامج بينية مشتركة موجهة لصناعة مترجمين سعوديين (لجميع اللغات) مختصين في تهيئة أنظمة الترجمة الآلية لجميع مجالات الأمن المختلفة والأمن الوطني بجميع مساراته. هذا في نظري يأتي ضمن التوجهات الاستراتيجية لجامعة الملك سعود، ويعتبر من أهم الجوانب التطويرية التي تركز عليها بشكل كبير للمساهمة في تحقيق رؤية المملكة 2030.

د.الحسين محمد ال مهديه

كلية اللغات والترجمة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA